- 1. كتب القدّيس فرنسيس الأسيزي “Fratelli tutti”[1]موجّهًا كلامه إلى جميع الإخوة والأخوات، مقترحًا عليهم أسلوب حياة فيه نكهة الإنجيل. أريد اليوم أن أسلّط الضوء على إحدى تلك النصائح التي يدعو فيها إلى حبٍّ يتخطّى حدود الجغرافيا والمكان. يعلن فيها سعادة الشخص الذي يحبّ أخاه “سواء كان بعيدًا عنه أم قريب”[2]. فقد أعرب بهذه الكلمات الوجيزة اليسيرة، عن جوهر أخوّة منفتحة، تسمح بأن نعترف بكلّ شخص ونقدّره ونحبّه متخطّين القرب الجسدي، أو مكان الميلادِ أو الإقامةِ.
- 2. يعود مجدّدًا هذا القدّيس المعروف بالحُبِّ الأخويّ والبساطة والفرح، الذي ألهمني لكتابة الرسالة العامة كن مسبّحا، فيحفّزني على تكريس هذه الرسالة الجديدة للأخوّة والصداقة الاجتماعية. لأن القدّيس فرنسيس، الذي شعر أنه شقيق الشمس والبحر والرياح، كان يعلم أنّ اتّحاده بالذين كانوا يشاركونه بشريّته هو أعظم من ذلك. فزرع السلام في كلّ مكان وكان في مسيرته قريبًا من الفقراء، والمتروكين، والمرضى، والمهمَّشين، والأخيرين.
- 3. هناك حدث في حياته يُظهِر لنا قلبه غير المحدود، والقادر على تخطّي المسافات التي يسبّبها المنشأ أو الجنسية أو اللون أو الدين. وهذا الحدث هو الزيارة التي قام بها في مصر إلى السلطان الملك الكامل، والتي تَطلَّبَت منه جهدًا كبيرًا بداعِ فقره، وقلّة موارده، وبُعد المسافة، واختلاف اللغة والثقافة والدين. فأظهرت هذه الرحلة، التي تمّت خلال تلك الحقبة التاريخية المتميّزة بالحروب الصليبية، عظمةَ الحبّ الذي كان يريد أن يعيشه، ويتوق إلى احتواء الجميع. فأمانته لربّه كانت تتناسب مع حبّه للإخوة والأخوات. ذهب القدّيس فرنسيس للقاء السلطان، وهو يدرك الصعوبات والأخطار، متّخذًا في قلبه نفس الموقف الذي يطلبه من تلاميذه: أي، دون إنكار هويّتهم، عند اختلاطهم “بالمسلمين أو غيرهم من غير المؤمنين […] ألّا يتسبّبوا في خلافات أو نزاعات، بل أن يخضعوا لكلّ مخلوق بشريّ محبّةً بالله”[3]. وهذا الطلب كان استثنائيًا في سياقٍ مثل ذاك السياق. من المؤثّر أن نرى كيف أنّ القدّيس فرنسيس قد دعا، قبل ثمانمائة سنة، إلى تجنّب جميع أشكال العدوان أو الفتنة، وأيضًا إلى عيش خضوع متواضع وأخويّ، وحتى تجاه الذين لا يشاركونهم الإيمان.
- 4. فهو لم يشنّ حربًا جدليّة ولم يفرض المذاهب، بل نقل محبّة الله. فَهِم أنّ “الله مَحبَّة، فمَن أَقامَ في المَحَبَّةِ أَقامَ في الله وأَقامَ اللهُ فيه” (1 يو 4، 16). وكان بهذه الطريقة أبًا مثمرًا، أيقظ الحلم بمجتمع أخويّ، لأن “الإنسان الذي يقبل الاقتراب من الكائنات الأخرى ضِمنَ مسيرتهم، ليس بهدف الاحتفاظ بهم في مسيرته الشخصية، إنما بغية مساعدتهم على أن يدركوا أصالتهم أكثر فأكثر، وحده يصبح حقًّا أبًا”[4]. كانت المدن، في ذاك العالم المليء بأبراج المراقبة والجدران الواقية، تعيشُ حروبًا دامية بين العائلات القويّة، بينما كانت تنمو في الوقت عينه المناطقُ البائسة في الضواحي المستبعدة. وفيها، نال فرنسيس السلام الحقيقي في داخله، وتحرّر من كلّ رغبة في الهيمنة على الآخرين، وأصبح واحدًا من الأخيرين، وسعى للعيش في وئام مع الجميع. فقد حفّزنا شخصه على كتابة هذه الصفحات.
- 5. طالما أوليت اهتمامًا للقضايا المتعلّقة بالأخوّة والصداقة الاجتماعية. وقد أشرت إليها مرارًا وتكرارًا خلال السنوات الماضية، وفي أماكن مختلفة. وأردت أن أجمع في هذه الرسالة العامّة العديد من تلك المداخلات وأن أضعها في سياق تفكير أوسع. علاوةً على ذلك، إذا كان مصدر إلهامي في كتابة الرسالة العامة كن مسبّحا أخي برثلماوس، البطريرك الأرثوذكسي الذي دافع بقوّة عن رعاية الخلق، فالذي شجّعني بشكل خاص في كتابة هذه الرسالة، إنما هو شخص الإمام أحمد الطيب الذي التقيت به في أبو ظبي، كي نذكّر العالم أنّ الله “خَلَقَ البَشَرَ جميعًا مُتَساوِين في الحُقُوقِ والواجباتِ والكَرامةِ، ودَعاهُم للعَيْشِ كإخوةٍ فيما بَيْنَهم”[5]. لم يكن مجرّد عمل دبلوماسي بل كان عمليّة تفكير حقّقناها عبر الحوار والعمل المشترك. هذه الرسالة العامّة تجمع وتعرض القضايا الرئيسية التي طرحناها في تلك الوثيقة التي وقّعناها معًا. كما جمعتُ فيها، بلغتي الخاصّة، العديد من الرسائل والمستندات مع تأمّلات تلقّيتها من العديد من الأشخاص والمجموعات حول العالم.
- 6. لا تهدف الصفحات التالية إلى تلخيص مبادئ المحبّة الأخويّة، بل تتوقّف عند بعدها العالميّ وانفتاحها على الجميع. أقدّم هذه الرسالة العامّة الاجتماعية مساهمةً متواضعة في التفكير من أجل أن نتمكّن، إزاء مختلف الطرق الحاليّة للقضاء على الآخرين أو لتجاهلهم، من أن نتفاعل من خلال حلم جديد من الأخوّة والصداقة الاجتماعية، لا يقتصر على الكلام. وعلى الرغم من أنني كتبت هذه الرسالة انطلاقًا من قناعاتي المسيحيّة التي تحرّكني وتغذّيني، فقد حاولت أن أكتبها بطريقة تفتح التفكير على الحوار مع جميع الأشخاص ذوي النوايا الحسنة.
- 7. بينما كنت أكتب هذه الرسالة اندلَعَت جائحة فيروس كورونا بشكل مفاجئ وسلَّطَت الضوء على ضماناتنا الزائفة. وأظهرت بوضوح، إلى جانب الاستجابات المختلفة التي قدَّمَتها البلدان المختلفة، عدمَ القدرة على العمل معًا. فعلى الرغم من وجود ارتباطات وثيقة، كان هناك تفكّك جعل من الصعب حلّ المشكلات التي تطالنا جميعًا. إذا اعتقد أحدهم أنّ الأمر يتعلّق بتحسين ما كنّا نقوم به سابقًا وحسب، أو أنّ الرسالة الوحيدة هي واجب تحسين الأنظمة والقواعد الحالية، فإنه ينكر الحقيقة.
- 8. آمل أن نستطيع، في هذا العصر الذي نجتازه، من خلال الاعتراف بكرامة كلّ إنسان، تجديدَ رغبة عالميّة في الأخوّة بين الجميع. بين الجميع: “هذا سرّ جميل كي نحلم ونجعل حياتنا مغامرة جميلة. لا يمكن لأحد أن يواجه الحياة بطريقة منعزلة […]. إننا بحاجة إلى جماعة تساندنا، وتساعدنا وفيها نساعد بعضنا البعض للتطلّع إلى الأمام. كم هو مهمّ أن نحلم معًا! […] وحدنا قد نرى السراب، الذي به نرى ما هو غير موجود؛ أنّ الأحلام نبنيها معًا”[6]. تعالوا نحلم باعتبار انتمائنا إلى إنسانيّة واحدة، وباعتبارنا عابري سبيل خُلِقنا من اللحم البشريّ نفسه، وأبناءٌ لهذه الأرض نفسها التي تأوينا جميعًا، وكلّ منّا يحمل غنى إيمانه أو قناعاته، وكلّ منّا بصوته الخاص، وجميعنا إخوة.
- 9. لا أنوي إجراء تحليل شامل ولا النظر في جميع جوانب الواقع الذي نعيش فيه، إنما أقترح فقط أن نولي اهتمامًا لبعض الميول التي تحول دون تنمية الأخوّة العالميّة في عالمنا الحاليّ.
- 10. لقد بدا العالم طيلة عقود وكأنّه استخلص درسًا من حروب وإخفاقات عديدة، وكأنه يتّجه ببطء نحو أشكال مختلفة من الإدماج. فعلى سبيل المثال، قد تقدّم الحلمُ بقارّة أوروبّية متحّدة قادرة على الاعترافِ بجذور مشتركة والامتنانِ لما فيها من تنوّع. ونذكّر أنه كان هناك اقتناع تامّ لدى “الآباء المؤسّسين للاتّحاد الأوروبي، الذين أرادوا مستقبلًا يقوم على القدرة على العمل معًا من أجل التغلّب على الانقسامات، وتعزيز السلام والتواصل بين جميع شعوب القارة”[7]. وازداد كذلك التوقُ إلى الاندماج في أمريكا اللاتينية وبدأت تتّخذ بعض الخطوات. كانت هناك أيضًا في دول ومناطق أخرى، محاولات ناجحة للتهدئة والتقارب وأخرى بدت واعدة.
- 11. لكن التاريخ أثبت أنّ العالم يتراجع. هناك صراعاتٌ عفا عليها الزمن واعتُبرت منتهية، تشتعلُ من جديد، وقوميّات مشحونة بالانغلاق والغضب والاستياء والعدوانيّة، تنهض من رمادها. فكرة وَحدة الشعب والأمّة، محمّلة بإيديولوجيات متنوّعة، تخلقُ في العديد من البلدان، أشكالًا جديدة من الأنانية وفقدان الحسّ الاجتماعي، تحت قناع الدفاع المزعوم عن المصالح الوطنية. وهذا يذكّرنا بأنه “يجب على كّل جيل أن يتبنّى نضالات وإنجازات الأجيال الماضية، ويقودها إلى أهداف أسما. إنها المسيرة. فالخير، وكذلك الحبّ والعدالة والتضامن، لا يمكن تحقيقها مرّة واحدة بصورة نهائيّة؛ يجب أن نحقّقها كلّ يوم. لا يمكننا أن نكتفي بما تمّ تحقيقه في الماضي فنكتف الأيدي، ونستمتع به كما لو أنّ هذا الوضع يدفعنا لتجاهل حالات ظلمٍ ما زال يعاني منها العديد من إخوتنا، وتستحثّنا جميعًا”[8].
- 12. لقد تبنّى العالمُ الاقتصادي والمالي اليوم عبارةَ “الانفتاح على العالم”. وهي تشير حصريًا إلى الانفتاح على المصالح الخارجية أو إلى حرّية القوى الاقتصاديّة في الاستثمار، دون قيود أو تعقيدات، في جميع البلدان. ويستخدم الاقتصاد العالمي الصراعات المحلّية وعدم الاهتمام بالخير العام من أجل فرضِ نموذج ثقافيّ واحد. وهذه الثقافة توحّد العالم لكنها تفرق بين الناس والأمم، لأن “المجتمعَ المُتعولِمَ باستمرار يجعلُنا أكثرَ قرباً لكنه لا يجعلُنا أخوةً”[9]. فنحن نعيش الوِحدة أكثر من أيّ وقت مضى في هذا العالم الذي أصبح ككتلة واحدة والذي يعطي الأولوية للمصالح الفردية ويُضعِف البعد المجتمعي للوجود. بل تزداد الأسواق، حيث لا يقوم الناس إلّا بدور المستهلك أو المتفرج. إنّ تَقَدُّم هذه العولمة يعزّز هويّة الأقوياء الذين يحمون أنفسهم، لكنه يحاول “تسييل” هوياتِ أوهنِ المناطقِ وأفقرها، مما يجعلها أكثر ضعفًا وارتهانًا. وبهذه الطريقة تزداد السياسة ضعفًا إزاء القوى الاقتصادية العابرة للأوطان التي تطبّق مبدأ “فرّق تَسُد”.
- 13. ولهذا السبب نفسه، يتزايد أيضًا فقدان الحسّ التاريخي مما يسبّب المزيد من التفكّك. ونلاحظ اختراقًا ثقافيًّا لنوعٍ من “التفكيكية” تحاول فيه الحرّية الإنسانية بناء كلّ شيء من الصفر. لكنه يستثني الحاجة إلى الاستهلاك بلا حدود، ويعزّز كذلك العديد من أشكال الفردية الفارغة. وفي هذا النطاق أذكّر بالنصيحة التي قدّمتُها للشباب: “إذا قدّم شخص ما لهم اقتراحًا وطلب منهم تجاهل التاريخ، وعدم الاستفادة من خبرة المسنّين، واحتقار كلّ الماضي، والنظر فقط نحو المستقبل الذي يقدّمه لهم، أليس هذا طريقة سهلة لجذبهم عبر اقتراحه، حتى يفعلوا فقط ما يقوله لهم؟ هذا الشخص يريدهم فارغين مقتلعين من جذورهم، لا يثقون بأيّ شيء، كي يثقوا فقط بوعوده ويخضعوا لخططه. هكذا تعمل الأيديولوجيات المتعدّدة الألوان، التي تدمّر كلّ ما هو مختلف وبهذه الطريقة يمكنها أن تسود بدون معارضة. ولهذا يحتاجون إلى شبيبة يحتقرون التاريخ، ويرفضون الغنى الروحي والبشري الذي نقلته الأجيال، ويتجاهلون كلّ ما سبقهم”[10].
- 14. هذه هي الأشكال الجديدة للاستعمار الثقافي. لا ننسينّ أنّ “الشعوب التي تبتعد عن تقاليدها الخاصة وتسمح بأن تمزّق أرواحها -بسبب هوسها بتقليد شعوب أخرى، أو فرض إرادتها حتى بالقوة، أو إهمالها أو إظهارها عدم مبالاة لا يغتفر- تفقد، إضافة إلى ملامحها الروحية، قوامَها الخُلُقي، وتخسر في النهاية استقلالها الإيديولوجي والاقتصادي والسياسي”[11]. فإفراغ الكلام العظيم من معناه والتلاعب به هو الوسيلة الفعّالة لإخماد الوعي التاريخيّ والتفكير النقديّ والالتزام بمسارات العدالة والتكامل. فماذا تعني اليوم بعض التعبيرات مثل الديمقراطية والحرية والعدالة والوَحدة؟ لقد تلاعبوا بها وشوّهوها في سبيل استخدامها كأدوات للهيمنة، وصارت عناوين لا مضمون لها، تُستخدم من أجل تبرير أيّ عمل كان.
- 15. إنّ أفضل طريقة للسيطرة والتقدّم دون حدود هي بثّ اليأس والاستمرار في إثارة عدم الثقة، حتى وإن تنكّرت بزيّ الدفاع عن قِيَم معينة. وتُستخدم اليوم الآلية السياسية، في العديد من البلدان، لإثارة الغضب والتصعيد والاستقطاب. وبطرق مختلفة، يُحرم الآخرون من حقّهم في الوجود والتفكير، ولهذا الغرض يطبّقون استراتيجية السخرية منهم، وإلقاء الشكوك حولهم، ومحاصرتهم. يرفضون ما يحملونه من حقيقة، أو قيَم، فيصبح المجتمع بهذه الطريقة أكثر فقرًا، ويؤول الأمر إلى غطرسة الأقوياء. وبالتالي، لم تعد السياسة مناقشة سليمة حول مشاريع طويلة المدى تهدف لتنمية الجميع والخير العام، إنما مجرّد وصفات تسويقية فورية تجد في تدمير الآخر العلاج الأكثر فعالية. في لعبة الاستبعاد الرخيصة هذه، يتلاعبون بالحوار بهدف إبقائه على مستوى المناقشة والمواجهة.
- 16. كيف يمكننا، في صراع المصالح هذا الذي يضع جميعَنا ضدّ الجميع، وحيث الفوز هو مرادف للتدمير، أن نرفع رأسنا للتعرّف على قريبنا أو للوقوف إلى جانب الذين سقطوا على طول الطريق؟ فكلّ مشروع ذي أهداف عظيمة لتنمية البشرية جمعاء يبدو اليوم كأنّه هذيان. إنّ المسافات تزداد بيننا، والمسيرة الصعبة والبطيئة نحو عالم موحّد وأكثر عدالة يواجه تراجعًا جديدًا وجذريًّا.
- 17. إنّ الاعتناء بالعالم الذي يحوطنا ويأوينا يعني الاعتناء بأنفسنا. لكننا بحاجة لأن نصبح تلك الجماعة -أي ذاك الـ “نحن”- التي تعيش في البيت المشترك. هذا الاعتناء لا يهمّ القوى الاقتصادية التي تحتاج إلى دخل سريع. وغالبًا ما يُسكِتون الأصوات التي ترتفع للدفاع عن البيئة أو يسخرون منها، فيصفون بالعقلانية تلك التي هي مصالحهم الخاصّة وحسب. في هذه الثقافة التي ننتجها، دون محتوى، وذات نزعة فورية وبدون مشروع مشترك، “من المُتَوَقَّع، إزاء استنزاف بعض الموارد، أن تنشأ تدريجيًّا حالة مؤيدة لشن حروبٍ جديدة، متخفيِّة تحت أقنعة المطالب النبيلة”[12].
- 18. تبدو أجزاءٌ من الإنسانية وكأن التضحية بها متاحة وفق خيار يفضّل قطاعًا بشريًا “يستحقّ العيش” بلا حدود. في الواقع، “إنّ الأشخاص لا يُعتبرون بعد قيمةً أساسيّة ينبغي احترامها وحمايتها، لا سيما إذا كانوا فقراء أو ذوي احتياجات خاصة، إن “كنا بغير حاجة لهم الآن“–كالأطفال الذين لم يولدوا بعد– أو لا جدوى منهم –كالمسنّين. لقد أصبحنا غير مبالين تجاه أيّ شكل من أشكال الهدر، انطلاقًا من الهدر الغذائي، وهو من بين الأكثر قباحة”[13].
- 19. إنّ الافتقار إلى الأبناء، الذي يتسبّب في شيخوخة السكّان، بالإضافة إلى ترك المسنّين في عزلة مؤلمة، هو طريقة غير مباشرة للتعبير عن أنّ كلّ شيء ينتهي بنا، وأنّ ما يهمّنا إنما هي مصالحنا الفردية وحسب. وبالتالي، “إنّ ما يُستَبعَد ليس فقط الغذاء أو ما يفيض من الخيرات، إنما -المستبعد غالبًا- هم البشر أنفسهم”[14]. لقد رأينا ما حدث لكبار السنّ في بعض أنحاء العالم بسبب فيروس كورونا. لا ينبغي أن يموتوا هكذا. ولكن في الواقع، لقد سبق أن حدث أمر مشابه بسبب موجات الحرّ وفي ظروف أخرى: فاستُبعِدوا بقسوة. لم ندرك أنّ عزل المسنّين وتركهم ليهتمّ بهم آخرون دون أن ترافقهم الأسرة مرافقة كافية وودّية، يشوّه الأسرة ويُفقِرها. ويقود، علاوةً على ذلك، إلى حرمان الشباب من تواصلهم الضروري مع جذورهم ومع حكمةٍ لا يستطيع الشباب تحقيقها بمفردهم.
- 20. يتجلّى هذا الاستبعاد في نواح كثيرة: في هوس خفض تكاليف العمالة مثلًا، دون أن ندرك العواقب الخطيرة التي يسبّبها ذلك، لأن البطالة الناتجة عنها كأثر مباشر يوسّع حدود الفقر[15]. علاوةً على ذلك، يتّخذ الاستبعاد أشكالًا حقيرة اعتقدنا أنّ الزمن قد عفا عليها، مثل العنصرية، التي تختفي وتعاود الظهور مرارًا وتكرارًا. وتعود العبارات العنصرية فتخجلنا مجدّدًا وتُظهِر أنّ التقدّم المزعوم للمجتمع ليس حقيقيًا وغير مضمون إلى الأبد.
- 21. هناك قواعد اقتصاديّة أثبتت فعاليّتها في عمليّة النموّ، ولكنها ليست فعّالة لتنمية بشريّة متكاملة[16]. فقد تزايد الغنى، ولكن دون مساواة، وبالتالي إنّ ما يحدث هو ولادة “أشكال جديدة من البؤس”[17]. عندما يقولون إنّ العالم الحديث قد حدّ من الفقر، إنما يقيسون بمعايير من عصور أخرى لا يمكن مقارنتها بالواقع الحاليّ. ففي عصور أخرى في الواقع، لم يكن عدم الحصول على الكهرباء، على سبيل المثال، علامة على الفقر، ولم يكن سببًا للانزعاج الشديد. يجب تحليل الفقر وفهمه دائمًا في سياق الإمكانيّات الحقيقية في زمن تاريخيّ ملموس.
حقوق الإنسان ليست عالميّة بشكل كاف
- 22. نلاحظ في كثير من الأحيان أنّ حقوق الإنسان ليست في الواقع متساوية للجميع. إنّ احترام هذه الحقوق هو “شرط أساسي للتنمية الاجتماعية والاقتصادية لأيّ بلد. عندما تُحتَرم كرامة الإنسان ويعُتَرف بحقوقه وتُحفَظ، يزدهر الإبداع والبراعة وتستطيع الشخصيّة البشرية أن تحقّق مبادراتها المتعدّدة لصالح الخير العام”[18]. ولكن “إذا راقبنا بدقّة مجتمعاتنا المعاصرة، لوجدنا العديد من التناقضات التي تدفعنا إلى التساؤل عمّا إذا كانت كرامة البشر أجمعين المتساوية، التي أُعلِنَت رسميًا قبل سبعين عامًا، مُعتَرَف بها ومُحتَرَمة ومحميّة ومُعزّزة في جميع الظروف. لا تزال هناك أشكال عديدة من الظلم في العالم اليوم، تغذّيها رؤى أنثروبولوجية مختزلة ونموذجٌ اقتصاديّ قائم على الربح، لا يتردّد في استغلال الإنسان وتجاهله بل وحتى قتله. وبينما يعيش جزء من الإنسانية في ترف، يرى جزء آخر كرامته متجاهلة أو محتقرة أو مداسة، وحقوقه الأساسية متجاهلة أو منتهكة”[19]. ماذا يقول هذا عن المساواة في الحقوق القائمة على نفس الكرامة الإنسانية؟
- 23. وبالمثل، فإنّ تنظيم المجتمعات حول العالم لا يزال بعيدًا عن أنْ يعكس بوضوح أنّ المرأة تتمتّع بنفس كرامة الرجل وحقوقه تمامًا. نؤكّد الأشياء بالكلام ولكن القرارات والواقع يسلّطان الضوء على رسالة أخرى. والحقيقة أنّ “فقرَ النساء، اللواتي يُعَانِينَ من أوضاع إقصاء وسوء معاملة وعنف، هو مضاعفٌ، لأنه غالبًا ما ينقصهنّ الإمكانات للدفاع عن حقوقهن”[20].
- 24. ندرك أيضًا أنه، “على الرغم من تبنّي المجتمع الدولي للعديد من الاتفاقات الهادفة إلى وضع حد للعبودية بجميع أشكالها، وإطلاقها استراتيجيات عدّة لمكافحة هذه الظاهرة، ما يزال اليوم ملايين الأشخاص، من أطفال ورجال ونساء على اختلاف أعمارهم، يُحرَمون من الحرية ويُرغَمون على العيش في ظروف مشابهة للعبودية. […] اليوم -كما الأمس- يوجد في جذور العبودية مفهوم للإنسان يقبل إمكانيةَ معاملته على أنّه غرض. […] ويُحرم الإنسان، المخلوق على صورة الله ومثاله، من حرّيته بواسطة الخداع والإكراه الجسدي أو النفسي، ويتحوّل إلى سلعة ويصبح مجرّد ملكية لأحدهم، ويُعامَل كأداة لا كغاية”. هذه الشبكات الإجرامية “تستخدم ببراعة التكنولوجيات المعلوماتية الحديثة بُغيَة استدراج أشخاص شبّان وآخرين يافعين جدًّا في أنحاء العالم كافة”[21]. ليس للشذوذ حدود عندما يُخضِع المرأة، ثم يجبرها على الإجهاض. عمل بغيض يصل إلى حدّ اختطاف الأشخاص بغرض بيع أعضائهم. إنّ كلّ هذا يحوّل الاتّجار بالأشخاص وغيره من أشكال العبودية إلى مشكلة عالمية، تتطلّب أنْ تؤخَذ على محمل الجدّ من قِبَلِ البشريّة جمعاء، “فكما أنّ المنظّمات الإجرامية تستخدم شبكات عالمية لبلوغ أهدافها، يتطلّب العمل للقضاء على هذه الظاهرة جهدًا مشتركًا وشاملًا أيضًا من قبل مختلف الجهات الفاعلة التي تكوّن المجتمع”[22].
- 25. يُنظَر بطرق مختلفة إلى الحروب والتفجيرات والاضطهادات لأسباب عرقية أو دينية، والعديد من الانتهاكات ضدّ الكرامة الإنسانية، وفقًا لما إذا كانت تناسب مصالح معيّنة، وهي اقتصاديّة بشكل أساسيّ. وما هو صحيح عندما يكون مناسبًا لشخص ذي نفوذ، يصبح غير صحيح عندما لا يعود عليه بالفائدة. إنّ حالات العنف هذه قد “تزايدت بشكل مؤلم في مناطق عديدة من العالم لدرجة أنَّها اتّخذت ملامح ما يمكن تسميته حربًا عالمية ثالثة على أجزاء“[23].
- 26. لا عجب في هذا إذا لاحظنا غياب آفاق قادرة على جمعِنا، لأن ما يتمّ تدميره في كلّ حرب هو “مشروع الأخوّة ذاته، الذي تتضمّنه رسالة الأسرة البشرية”، ولذا فإنّ “كلّ وضع يسوده التهديد يغذّي انعدام الثقة والانغلاق على الذات”[24]. وهكذا، فإنّ عالمنا يتقدّم في انقسام لا معنى له، مدّعيًا أنّه يضمن الاستقرار “على أساس أمان زائفيرتكز على عقلية الخوف وانعدام الثقة التي تؤدّي إلى إفساد العلاقات بين الشعوب ومنع أيّ حوار ممكن”[25].
- 27. ومن المفارقات أنّ هناك مخاوف قديمة لم يتخطّاها التقدّم التكنولوجي، لا بل استطاعت أن تختبئ وتتطوّر خلف التقنيات الجديدة. فخلفَ سور المدينة القديمة، حتى في أيامنا هذه، هناك هاوية، هناك أرض المجهول، والصحراء. وما يأتي من هناك إنما هو غير موثوق به، لأنه غير معروف، وغير مألوف، ولا ينتمي إلى القرية. إنّها أرض ما هو “بربري”، والذي يجب أن نحمي أنفسنا منه بأيّ ثمن. وبالتالي، ننشئ حواجز جديدة للدفاع عن النفس، بحيث لم يعد العالم موجودًا ولم يعد هناك سوى “عالمي الشخصي”، لدرجة أنّ الكثيرين لا يُعتبرون بعدُ بشر ذوي كرامة غير قابلة للتصرّف، بل أصبحوا مجرّد “هؤلاء”. وعاد ليظهر مجدّدًا الميلُ لإقامة ثقافة الجدران، ثقافة تشييد الجدران، في القلب وفي الأرض، لمنع هذا اللقاء مع الثقافات الأخرى، ومع الآخرين. إنّ كلّ مَن يشيّد جدارًا، كلّ من يبني جدارًا، سينتهي به المطاف بأن يكون عبدًا داخل الجدران التي بناها، دون آفاق. لأنه يفتقر إلى الغيريّة”[26].
- 28. أمّا الوِحدة، وعدم الأمان والمخاوف التي يختبرها الكثير من الأشخاص الذين يشعرون أنّ النظام قد تخلّى عنهم، فتخلق أرضًا خصبة للمافيا. فهي في الواقع تفرض نفسها إذ تقدّم ذاتها على أنّها “تحمي” المنسيّين، وغالبًا عبر أنواع مختلفة من المساعدة، بينما تتابع مصالحها الإجرامية. هناك أسلوب تعامل خاصّ بالمافيا، يخلق روابط من الاعتماديّة والتبعيّة، عبر روح جماعيّة مزيّفة، يصعب للغاية التحرّر منها.
- 29. إننا وفضيلة الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب، لا نتجاهل التقدّم الإيجابي الذي حدث في العلوم والتكنولوجيا والطبّ والصناعة والرفاهية، وخاصّة في البلدان المتقدّمة. “فإنَّا -مع ذلك- نُسجِّلُ أنَّ هذه القَفزات التاريخيَّةَ الكُبرى والمَحمُودةَ تَراجَعَتْ معها الأخلاقُ الضَّابِطةُ للتصرُّفاتِ الدوليَّةِ، وتَراجَعَتِ القِيَمُ الرُّوحِيَّةُ والشُّعُورُ بالمَسؤُوليَّةِ؛ ممَّا أسهَمَ في نَشْرِ شُعُورٍ عامٍّ بالإحباطِ والعُزْلَةِ واليَأْسِ، […]. وهناك أماكنُ أُخرَى يَجرِي إعدادُها لمَزيدٍ من الانفجارِ وتكديسِ السِّلاح وجَلْبِ الذَّخائرِ، في وَضْعٍ عالَمِيٍّ تُسيطِرُ عليه الضَّبابيَّةُ وخَيْبَةُ الأملِ والخوفُ من المُستَقبَلِ، وتَتحكَّمُ فيه المَصالحُ الماديَّةُ الضيِّقة”.
ونشير أيضًا إلى “الأزماتِ السياسيَّةَ الطاحنةَ، والظُّلمَ وافتِقادَ عَدالةِ التوزيعِ للثرواتِ الطبيعيَّة […] وأمامَ هذه الأزمات التي تجعَلُ مَلايينَ الأطفالِ يَمُوتُونَ جُوعًا، وتَتحَوَّلُ أجسادُهم -من شِدَّةِ الفقرِ والجوعِ- إلى ما يُشبِهُ الهَيَاكِلَ العَظميَّةَ الباليةَ، يَسُودُ صمتٌ عالميٌّ غيرُ مقبولٍ”[27]. إزاء هذا المشهد، وعلى الرغم من أننا منجذبون إلى الكثير من التقدّم، إلّا أننا لا نرى مسارًا إنسانيًا حقًا.
- 30. إنّ الشعور بالانتماء إلى الإنسانيّة نفسها يضعف في عالم اليوم، في حين أنّ حلم بناء العدل والسلام معًا يبدو كأنه يوتوبيا من عصور أخرى. ونرى هيمنة لامبالاة ملائمة وباردة وشاملة، ابنة سراب عميق يختبئ وراء خداع الوهم: وهْمُ اعتقادِنا أنه بإمكاننا أن نكون جبابرة وننسى أننا جميعًا في نفس القارب. خيبة الأمل هذه، التي تترك وراءها القيم الأخوية العظيمة، تؤدّي “إلى نوع من السخرية. هذه هي التجربة التي نواجهها، إذا اتّخذنا درب الوهم أو خيبة الأمل هذا. […] إنّ العزلة والانغلاق على الذات أو على المصلحة الشخصية ليست هي السبيل أبدًا لإعادة الرجاء والعمل على التجديد، بل إنه التقارب، وثقافة اللقاء. لا العزلة، بل التقارب. لا ثقافة الصدام، بل ثقافة اللقاء”[28].
- 31. في هذا العالم الذي يتقدّم مسرعًا دون مسار مشترك، نشعر بجوّ “تتّسع فيه المسافة بين هوس الرفاهية الشخصية والسعادة المشتركة للبشرية، إلى حدّ أنه يعطي الانطباع بأنّ الانقسام الحقيقي يحدث بين الفرد والمجتمع البشري. […] أن يشعر المرء بأنه مضطر للعيش مع الآخرين هو شيء، وأن يقدّر غنى وجمال بذور الحياة المشتركة التي يجب البحث عنها وتنميتها معًا هو شيء آخر”[29]. التكنولوجيا تتقدّم باستمرار، ولكن “كم سيكون جميلًا لو كان نموّ الابتكارات العلميّة والتكنولوجيّة يتوافق أيضًا مع قدر أكبر من الإنصاف والاندماج الاجتماعي! كم سيكون جميلًا لو أننا عندما نكتشف كواكب جديدة بعيدة، نعيد اكتشاف احتياجات الأخ أو الأخت القريبين!”[30].
الجائحات وضربات التاريخ الأخرى
- 32. إنّ مأساة عالميّة مثل مأساة جائحة فيروس كورونا قد زادت الإدراك، لبعض الوقت، بأننا مجتمع عالميّ يركِب الزورقَ نفسه، حيث ضرر فرد واحد يصيب الجميع. نذكّر أنّ ما من أحد يَخلُص وحده، وأنه لا يمكننا أن نخلص إلّا مجتمعين. ولهذا السبب قلت إنّ “العاصفة تُسقِط القناع عن ضعفنا وتفضح الضمانات الزائفة وغير الضرورية التي بنينا عليها جداول أعمالنا ومشاريعنا وعاداتنا وأولويّاتنا […] سقطت أيضًا مع العاصفة، خدعةُ تلك الصور النمطيّة التي تخفي وراءها الـ “أنا” الخائف باستمرار على صورته؛ وظهر مجدّدًا، هذا الانتماء المشترك (المبارك) الذي لا فِرار منه ألا وهو: الانتماء كأخوة”[31].
- 33. كان العالم يتقدّم بشكل صارم باتّجاه اقتصادٍ يحاول تقليل “التكاليف البشرية” عبر استخدام التقدّم التكنولوجي، وحاول البعض أن يجعلنا نعتقد أنّ حرّية السوق كانت كافية لضمان كلّ شيء. لكن الضربة القاسية والمفاجئة التي حملتها هذه الجائحة الخارجة عن السيطرة، أجبرتنا على إعادة التفكير في البشر، في الجميع، أكثر منه في فائدة بعضهم. يمكننا اليوم أن ندرك أننا “غذّينا أنفسنا بأحلام المجد والعظمة، فأكلنا التشتّت والانغلاق والعزلة؛ امتلأنا بالاتّصالات، وفقدنا طعم الإخاء. سعينا لتحقيق نتائج سريعة ومضمونة، فطغى علينا التسرّع والقلق. وقعنا أسرى الافتراضية، وفقدنا طعم الواقع ونكهته”[32]. إنّ ما أيقظته الجائحة من ألم وعدم يقين وخوف وإدراك لحدود الذات، يردّد صدى الدعوة إلى إعادة التفكير في أنماط حياتنا، وعلاقاتنا، وتنظيم مجتمعاتنا، وخاصّة معنى وجودنا.
- 34. إذا كان كلّ شيء مرتبطًا ببعضه، فمن الصعب التفكير في أنّ هذه الكارثة العالمية لا تتعلّق بطريقتنا في مواجهة الواقع، إذ ندّعي بأننا أسياد مطلقون على حياتنا الخاصّة وعلى كلّ شيء موجود. لا أقصد هنا أنه نوع من العقاب الإلهي. كما أنّه لا يكفي التأكيد على أنّ الضرر الذي يلحق بالطبيعة ينتهي به الأمر إلى محاسبتنا على انتهاكاتنا. فالواقع ذاته هو الذي يئنّ ويتمرّد. يعود إلى ذهني في هذا الصدد بيت شعر كتبه فيرجيليو يذكر فيه دموع الأشياء والتاريخ[33].
- 35. لكننا ننسى بسرعة دروس التاريخ، “معلّم الحياة”[34]. إنّ أسوأ ردّ فعل، بعد انتهاء الأزمة الصحية، هو أن نقع في نزعة استهلاكية محمومة وفي أشكال جديدة من حماية أنانية للذات. نأمل ألّا يبقى في النهاية “الآخرون”، إنما فقط الـ “نحن”. نأمل ألّا يكون هذا حدث خطير آخر من أحداث التاريخ، لم نتمكّن من أن نستخلص منه درسًا لنا. نأمل ألّا ننسى المسنّين الذين لقوا حتفهم بسبب نقص أجهزة التنفّس، نتيجة تفكيك الأنظمة الصحّية –نوعًا ما- عامًا بعد عام. نأمل ألّا يكون كلّ هذا الألم دون جدوى، وأن نقوم بقفزة نحو طريقة جديدة للحياة وأن نكتشف بشكل قاطع أننا نحتاج وندين بعضنا لبعض، بحيث تولد البشرية من جديد بكلّ الوجوه وكلّ الأيدي وكلّ الأصوات، وأبعد بكثير من الحدود التي رسمناها.
- 36. إذا فشلنا في استعادة حماس مشترك في مجتمع يعرف الانتماء والتضامن، في مجتمع نخصّص له الوقت والجهد والخيرات، فإنّ الوهم العالميّ الذي يخدعنا سيسقط بشكل مدمّر وسيترك الكثيرين في حالة غثيان وفراغ. علاوة على ذلك، يجب ألّا نتجاهل بسذاجة أنّ “الهوس بنمطِ حياةٍ استهلاكي -خاصّة عندما يكون متاحًا فقط لعدد قليل من الأشخاص– يمكنه أن يؤجّج العنف والتدمير المتبادل”[35]. ومبدأ “خلّص نفسك” سيترجم عاجلًا إلى “الجميع ضدّ الجميع”، وسيكون ذلك أسوأ من الجائحة.
سقوط الكرامة الإنسانية عند الحدود
- 37. إنّ ما تطالب به الأنظمةُ السياسية الشعبوية وكذلك المناهج الاقتصادية الليبرالية إنما هو وجوب تجنّب وصول المهاجرين بأيّ ثمن. في الوقت نفسه، يتمّ التجادل حول الحدّ من المساعدات الممنوحة للبلدان الفقيرة، حتى تصل إلى الحضيض وتقرّر اتّخاذ تدابير التقشّف. لا يدركون أنّ خلف هذه العبارات المجرّدة التي يصعب تحمّلها، هناك العديد من الأرواح التي تتمزّق. يهرب الكثيرون من الحرب والاضطهاد والكوارث الطبيعية. أمّا الآخرون، بكامل حقوقهم، “يبحثون بشكل عام، عن فرص لأنفسهم ولأسرهم. يحلمون بمستقبل أفضل ويريدون تهيئة الظروف لتحقيقه”[36].
- 38. وآخرون، لسوء الحظ، ينجذبون إلى الثقافة الغربية، “مع تطلّعات غير واقعيّة أحيانًا تعرّضهم لخيبة أمل كبيرة. فيستغلّ المتاجرون عديمو الضمير -الذين غالبًا ما يرتبطون بعصابات المخدّرات أو الأسلحة- ضعفَ المهاجرين، الذين غالبًا ما يتعرّضون طوال رحلتهم للعنف والاتّجار بالبشر والاعتداء النفسي والجسدي والمعاناة التي لا توصف”[37]. يضطرّ المهاجرون إلى “الانفصال عن إطارهم الأصليّ، وغالبًا ما يختبرون فقدان جذورهم الثقافية والدينية. كما أنّ المجتمعات المحلّية التي تخلّفها وراءها تعاني من التجزّؤ، إذ تفقد عناصرها الأكثر نشاطا وجرأة، والأسر، خاصّة عندما يهاجر أحد الوالدَين أو كلاهما، تاركًا الأطفال في بلد المنشأ”[38]. لذلك، “يجب إعادة التأكيد أيضًا على الحقّ في عدم الهجرة، أي أن تتوفّر الشروط اللازمة كي يبقى المرء في وطنه”[39].
- 39. علاوةً على كلّ هذا، “تتسبّب ظاهرة الهجرة في بعض البلدان المضيفة، بشعور بالخوف والقلق، وغالبًا ما يتمّ إثارته واستغلاله لأغراض سياسية. وهذا يؤدّي إلى انتشار عقليّة كراهية الأجانب، لدى أشخاص منغلقين على أنفسهم”[40]. يُعدّون المهاجرين غير مستحقّين بقدر كاف للمشاركة في الحياة الاجتماعية مثل أيّ شخص آخر، وينسون أنّ لديهم نفس الكرامة الجوهرية مثل كافة الأشخاص. لذلك، يجب أن يلعبوا “دورًا أساسيًّا في إنقاذهم الشخصي”[41]. لن يقول أحد أبدًا أنهم ليسوا بشرًا، ولكنهم يظهرون من الناحية العملية، عبر القرارات وطريقة المعاملة، أنهم يُعتَبَرون أقلّ قيمة وأقلّ أهمّية وأقلّ إنسانية. من غير المقبول أن يشارك المسيحيون هذه العقلية وهذه المواقف، مرجّحين أحيانا أفضليات سياسية معيّنة على قناعاتهم الإيمانية العميقة: الكرامة المطلقة لكلّ إنسان بِغضّ النظر عن أصله أو لونه أو دينه، والشريعة العظمى، أي شريعة المحبّة الأخوية.
- 40. “ستشكّل الهجرات عنصرًا مؤسّسًا لمستقبل العالم”[42]. لكنها تعاني اليوم من “فقدان ذلك الإحساس بالمسؤولية الأخوية، الذي يقوم عليه كلّ المجتمع المدني”[43]. أوروبا، على سبيل المثال، هي في خطر اتّخاذ هذا الطريق. ومع ذلك، فبمساعدة “إرثها الثقافي والديني الكبير، تملك الأدوات الملائمة للدفاع عن مركزية الإنسان وإيجاد التوازن الصحيح بين الواجب الخلقي المزدوج المتمثّل باحترام حقوق مواطنيها، وضمان المساعدة والضيافة للمهاجرين”[44].
- 41. أتفهّم أن يكون لدى بعض المهاجرين شكوكٌ وخوف. أتفهّم هذا كجزء من الغريزة الطبيعية للدفاع عن النفس. ولكن من الصحيح أيضًا أنّ الإنسان أو الشعب، لا يكون مثمرًا إلّا إذا عرف كيف يبدع في الانفتاح على الآخرين. أدعوكم إلى تجاوز ردود الفعل الأولية هذه، لأن “المشكلة هي عندما تُسَيِّر هذه الشكوك والمخاوف طريقتَنا في التفكير والتصرّف فتجعلنا غير متسامحين، ومنغلقين، وربما حتى -دون أن ندرك ذلك- عنصريين. ويحرمنا الخوفُ بهذه الطريقة من الرغبة والقدرة على لقاء الشخص الآخر”[45].
- 42. ومن المفارقات، أنه بينما تزداد المواقف المنغلقة والمتشدّدة التي تعزلنا عن الآخرين، تقصر المسافات أو تختفي لدرجة فقدان الحقّ في الخصوصية. فقد تحوّل كلّ شيء إلى نوع من عرضٍ يمكن رصده ومراقبته، والحياة أصبحت تحت مراقبة مستمرّة. يريدون عرض كلّ شيء من خلال التواصل الرقمي، وأصبح كلّ فرد هدفًا لنظرات فضوليّة، تعرّي وتكشف، وغالبًا ما تكون مجهولة. إنّ احترام الآخر يتلاشى، وبهذه الطريقة، في حين أُبعِده وأتجاهله وأنحيه، أستطيع، دون خجل، أن أغزو حياته إلى أقصى الحدود.
- 43. من ناحية أخرى، لا تشكّل الحركات الرقمية الداعية للكراهية والدمار شكلًا فعليًّا من أشكال المساعدة المتبادلة -كما يدّعي البعض-، إنما هي مجرّد اتّحاد ضدّ العدو. بالأحرى، “يمكن لوسائل الإعلام الرقمية أن تعرّض الناس لخطر الإدمان والعزلة وفقدان الاتّصال تدريجيًّا مع الواقع الملموس، مما يعوق تطوير علاقات شخصيّة حقيقية.”[46]. نحن بحاجة إلى حركات جسدية، وتعبيرات وجه، وصمت، ولغة جسد، وحتى إلى العطر، وارتعاش اليدين، والاحمرار، والعِرق، لأنّ كلّ هذا يعبّر ويشكّل جزءًا من التواصل البشري. فالعلاقات الرقمية، التي تعفي من تنمية الصداقة التي تتطلّب جهدًا، ومن معاملة بالمثل مستقرة، وحتى من توافق ينضج بمرور الوقت، لها مظهر اجتماعي. لكنها لا تبني حقًا الـ “نحن” إنما مِن المعتاد أن تخفي وتزيد الفرديّة التي تظهر في كراهية الأجانب واحتقار الضعفاء. التواصل الرقمي لا يكفي لبناء الجسور، وهو غير قادر على توحيد الإنسانية.
- 44. بينما يدافع الناس عن عزلتهم الاستهلاكية الخاصّة والمريحة، يختارون أن يكونوا مُقيَّدين باستمرار وبهوس. وهذا يساعد على ظهور أشكال غير اعتيادية من العدوانية، والإهانات، وسوء المعاملة، والإساءة، والكلام المؤذي لدرجة تشويه صورة الآخر، وبفجور ما كان ليوجد لو كان التواصل مباشر بين الأشخاص دون أن ينتهي بنا الأمر بتدمير بعضنا البعض. إنّ العدوانية الاجتماعية تجد في الأجهزة المحمولة وأجهزة الكمبيوتر مجالًا، لا مثيل له، للانتشار.
- 45. وهذا قد سمح للأيديولوجيات بفقدان كلّ حياء. وما لم يكن ممكنًا قوله قبل بضع سنوات دون المخاطرة بفقدان احترام العالم كلّه، يمكن اليوم التعبير عنه بكلّ فظاعة، حتى من قِبَل بعض السلطات السياسية، ودون عقاب. لا يمكن تجاهل أنّ “هناك مصالح اقتصادية ضخمة تعمل في العالم الرقمي، قادرة على ممارسة أشكال من السيطرة بطريقة مخفيّة وتدميريّة، وخلق آليّات للتلاعب بالضمير وبالعملية الديمقراطية. والطريقة التي تعمل بها العديد من المنصّات غالبًا ما تتوصّل إلى جمعِ أشخاص يفكّرون بنفس الطريقة، فتعوّق المواجهة بين الاختلافات. وهذه الدوائر المغلقة تسهّل انتشار الأخبار المزوّرة والمعلومات الكاذبة، وإثارة التحيّز والكراهية”[47].
- 46. يجب أن نعترف أنّ التعصّب الذي يؤدّي إلى تدمير الآخرين يقوم به أشخاص متديّنون أيضًا، دون استثناء المسيحيّين، الذين قد يشتركوا “في شبكات العنف الكلامي عبر الأنترنت أو مختلف مجالات نظام التبادل الرقمي. لدرجة أنه، حتى عبر وسائل الاعلام الكاثوليكيّة، يمكن تجاوز الحدود، ويُسمح بالتشهير والافتراء، كأنّه ما من وجود للأخلاق ولا لاحترام سمعة الآخرين”[48]. ما هي المساهمة التي تُقَدَّم، من ثمّ، في الأخوّة التي يقترحها علينا الآب المشترك؟
- 47. الحكمة الحقيقية تقتضي التلاقي مع الواقع. ولكن من الممكن اليوم إنتاج كلّ شيء وإخفائه وتغييره. وهذا يجعل التلاقي المباشر مع حدود الواقع لا يطاق. ونتيجة لذلك، نشغّل آلية “الاختيار” ونقيم عادةَ الفصلِ الفوري بين ما يعجبني وما لا يعجبني، وبين الأمور الجذّابة والأمور القبيحة. وبنفس المنطق، نقوم باختيار الأشخاص الذين نقرّر أن نشاركهم العالم. وبالتالي، فإن الأشخاص أو المواقف التي تؤذي مشاعرنا أو تسبّبت في استيائنا، نتخلّص منها اليوم بكلّ بساطة في الشبكات الافتراضية، ونبني دائرة افتراضية تعزلنا عن العالم الذي نعيش فيه.
- 48. إنّ الجلوس للاستماع إلى آخر، وهو سمة من سمات اللقاء الإنساني، هو نموذج من تصرّف شخصٍ منفتح على الترحيب، يتغلّب على النرجسية ويقبل الآخر، ويوليه اهتمامه، ويرحّب به في دائرته الخاصّة. لكن “عالم اليوم هو في الغالب عالم أصمّ. […] وتمنعنا أحيانًا سرعة العالم الحديث والجنون، من الاستماع جيّدًا لما يقوله الشخص الآخر. وعندما يكون في منتصف حواره، نقاطعه ونريد أن نردّ عليه بينما لم ينته بعد من كلامه. فَعَلينا ألّا نفقد القدرة على الاستماع”. لقد سمع القدّيس فرنسيس الأسيزي “صوت الله، وسمع صوت الفقراء، وسمع صوت المرضى، وسمع صوت الطبيعة. وحوّل كل ذلك إلى نمط حياة. وأتمنّى أن ينمو ما زرعه القدّيس فرنسيس في قلوب كثيرة”[49].
- 49. مع تلاشي الصمت والاصغاء، وتحويل كلّ شيء إلى نقرات ورسائل سريعة ومشحونة بالقلق، نعرّض للخطر الهيكل الأساسي للتواصل البشري الحكيم. نخلق نمطَ حياةٍ جديد حيث نبني ما نريد أن يكون أمامنا، ونستثني كلّ ما لا يمكن السيطرة عليه أو معرفته معرفة سطحيّة وفوريّة. هذه الديناميكيّة، بسبب منطقها الجوهري، تمنعنا من القيام بتفكير هادئ قادر على أن يقودنا إلى حكمة مشتركة.
- 50. نستطيع أن نبحث عن الحقيقة معًا عبر الحوار أو في محادثة هادئة أو في مناقشة حماسية. إنه مسار مثابر، مصنوع أيضًا من الصمت والمعاناة، قادر على أن يجمع بصبر الخبرة الطويلة للأفراد والشعوب. فالتراكم الهائل للمعلومات التي تغمرنا لا يعني المزيد من الحكمة. والحكمة لا تُصنَع من عمليات بحث دؤوبة على الإنترنت، ولا هي عبارة عن تجميع معلومات لسنا أكيدين من صحّتها. بهذه الطريقة، لا ننضج في التلاقي مع الحقيقة. وتدور المحادثات في نهاية المطاف فقط حول أحدث البيانات، وهي أفقيّة وتراكمية وحسب. لكننا لا نوليها اهتمامًا وثيقًا ولا نخترق قلب الحياة، ولا ندرك ما هو ضروري حتى نعطي معنى للوجود. وتصبح الحرّية بالتالي وهمًا يبيعونها لنا ونخلط بينها وبين حرّية التنقّل أمام الشاشة. فالمشكلة تكمن في أنّ طريق الأخوّة، محليًا وعالميًا، لا يعبره إلّا الأرواح الحرّة والمستعدّة للقاءات حقيقية.
- 51. إنّ بعض الدول الناجحة اقتصاديًا تُقَدَّم على أنّها نماذج ثقافية للدول التي هي في قيد التطور، بدلاً من العمل على أن ينمو كلّ بلد بأسلوبه الخاص، ويطوّر قدراته على الابتكار انطلاقًا من قيمه الثقافية. هذا الحنين السطحي والمُحزِن، الذي يؤدّي إلى التقليد وإلى الشراء بدلًا من الابتكار، يفسح المجال لازدراء الذات على المستوى الوطني. فهناك، ضمن القطاعات الثرية في العديد من البلدان الفقيرة، ومنهم أحيانًا بلدان قد تمكّنوا من قهر الفقر، عجزٌ على قبول ميزاتهم وطرقهم الخاصّة، فيقعون في ازدراء هويّتهم الثقافية الخاصّة كما لو كانت السبب الوحيد لجميع العلل.
- 52. إنّ تحطيم احترام الشخص لذاته هو طريقة سهلة للسيطرة عليه. وراء هذه الميول التي تسعى إلى تجانس العالم، تظهر مصالح السلطة التي تستفيد من تدنّي احترام الذات، بينما تحاول، من خلال وسائل الإعلام والشبكات، خلق ثقافة جديدة في خدمة الأقوى. والمستفيد من ذلك إنما هي انتهازية المضاربة المالية والاستغلال، حيث الخاسرون هم دومًا الفقراء. ومن ناحية أخرى، يقودُ تجاهل ثقافةَ الشعب إلى فشل العديد من القادة السياسيين في تنفيذ مشروع فعّال يمكن أن يقبله الشعب ويدعمه بحرّية بمرور الوقت.
- 53. ننسى أنه “لا يوجد انسلاخ أسوأ من تجربة عدم امتلاك جذور، وعدم الانتماء لأحد. فالأرض تكون خصبة، والشعب يعطي ثمرًا، ويولّد غدًا، فقط بقدرِ إحيائه علاقات انتماء فيما بين أعضائه، وبقدر ما يخلق روابط إدماج بين مختلف الأجيال والجماعات التي تكوّنه؛ وأيضًا بقدر ما يكسر الدوامات التي تحجب الحواس، فتبعدنا أكثر فأكثر عن بعضنا البعض”[50].
- 54. على الرغم من هذه الظلال الكثيفة التي يجب ألّا نتجاهلها، أودّ في الصفحات التالية أن أمنح صوتًا للعديد من مسارات الرجاء. فالله -في الواقع- لا زال يصبّ بذور الخير في البشرية. لقد سمحت لنا الجائحة الأخيرة باستعادة وتقدير العديد من رفقاء ورفيقات السير الذين تفاعلوا، خوفًا، ووهبوا حياتهم. استطعنا أن نعترف بأنّ حياتنا منسوجة ومسنودة من قِبَل أشخاص عاديّين كتبوا، دون شكّ، الأحداث الحاسمة في تاريخنا المشترك: الأطبّاء، والممرّضين، والممرّضات، والصيدليّين، والعاملين في متاجر البقالة، وعمّال النظافة، ومقدّمي الرعاية، والعاملين في مجال النقل، والرجال والنساء العاملين على توفير الخدمات الأساسية والأمن، والمتطوّعين، والكهنة، والراهبات، … فهموا أنّه لا أحد يُخلّص نفسه بنفسه[51].
- 55. أدعو إلى الرجاء الذي “يخبرنا عن واقع متجذّر في أعماق الإنسان، بغضّ النظر عن الظروف الواقعيّة والتاريخيّة التي يعيش فيها. يخبرنا عن التعطّش، والطموح، والشوق إلى الملء، والحياة المكتملة، والرغبة في لمس العظمة، التي تملأ القلب وتسمو بالروح نحو أشياء عظيمة، مثل الحقيقة والصلاح والجمال، والعدل والمحبة. […] الرجاء جريء، فهو يعرف كيف ينظر إلى ما وراء الراحة الشخصية، والضمانات الصغيرة والتعويضات التي تضيّق الأفق، حتى ينفتح على المثل العليا التي تجعل الحياة أكثر جمالًا وجلالًا”[52]. تعالوا نسير في الرجاء.
- 56. كلّ ما ذكرته في الفصل السابق هو أكثر من مجرّد وصف بارد للواقع، لأنّ “آمالَ البشرِ وأفراحَهم، في زمننا هذا، وأحزانَهم ومآسيهم -لا سيما الفقراء منهم والمعذَّبين جميعًا-، لهي أفراحُ تلاميذِ المسيح وآمالُهم، وهي أحزانُهم ومآسيهم. وهل من شيءٍ إنسانيٍّ حقّ إلّا وله صداهُ في قلوبهم”[53]. بينما نحاول البحث عن ضياء في خضمّ ما نشهده، وقبل أن أقترح بعض خطوط العمل، أودّ أن أخصّص فصلًا لمَثَلٍ أعطاه يسوع المسيح قبل ألفي سنة. لأن مضمون هذا المثل، على الرغم من أنّ هذه الرسالة موجّهة إلى جميع الأشخاص ذوي النوايا الحسنة، وبغضّ النظر عن معتقداتهم الدينية، لا يسعه إلّا أن يثير اهتمام أيّ منّا.
“وإِذا أَحَدُ عُلماءِ الشَّريعَةِ قَد قامَ فقالَ لِيُحرِجَه: “يا مُعَلِّم، ماذا أَعملُ لِأَرِثَ الحيَاةَ الأَبَدِيَّة؟“ فقالَ له: “ماذا كُتِبَ في الشَّريعَة؟ كَيفَ تَقرأ؟“ فأَجاب: “أَحبِبِ الرَّبَّ إِلهَكَ بِكُلِّ قَلبِكَ، وكُلِّ نَفسِكَ، وكُلِّ قُوَّتِكَ، وكُلِّ ذِهِنكَ وأَحبِبْ قَريبَكَ حُبَّكَ لِنَفسِكَ“. فقالَ لَه: “بِالصَّوابِ أَجَبْتَ. اِعمَلْ هذا تَحْيَ“. فأَرادَ أَن يُزَكِّيَ نَفسَه فقالَ لِيَسوع: “ومَن قَريبـي؟“ فأَجابَ يَسوع: “كانَ رَجُلٌ نازِلاً مِن أُورَشَليم إِلى أَريحا، فوقَعَ بِأَيدي اللُّصوص. فعَرَّوهُ وانهالوا علَيهِ بِالضَّرْب. ثمَّ مَضَوا وقد تَركوهُ بَينَ حَيٍّ ومَيْت. فاتَّفَقَ أَنَّ كاهِناً كانَ نازِلاً في ذلكَ الطَّريق، فرآهُ فمَالَ عَنه ومَضى. وكَذلِكَ وصلَ لاوِيٌّ إِلى المَكان، فَرآهُ فمَالَ عَنهُ ومَضى. ووَصَلَ إِلَيه سَامِرِيٌّ مُسافِر ورَآهُ فأَشفَقَ علَيه، فدَنا منه وضَمَدَ جِراحَه، وصَبَّ علَيها زَيتاً وخَمراً، ثُمَّ حَمَلَه على دابَّتِه وذَهَبَ بِه إِلى فُندُقٍ واعتَنى بِأَمرِه. وفي الغَدِ أَخرَجَ دينارَيْن، ودَفَعهما إِلى صاحِبِ الفُندُقِ وقال: “اِعتَنِ بِأَمرِه، ومَهْما أَنفَقتَ زيادةً على ذلك، أُؤَدِّيهِ أَنا إِليكَ عِندَ عَودَتي“. فمَن كانَ في رأيِكَ، مِن هؤلاءِ الثَّلاثَة، قَريبَ الَّذي وَقَعَ بِأَيدي اللُّصوص؟“ فقال: “الَّذي عَامَلَهُ بِالرَّحمَة“. فقالَ لَه يَسوع: “اِذْهَبْ فاعمَلْ أَنتَ أَيضاً مِثْلَ ذلك“” (لو 10، 25- 37).
- 57. يشملُ هذا المثلُ خلفيّةَ قرون مضت. بعد رواية خلق العالم والإنسان بقليل، طَرَح الكتاب المقدّس ما تمثّله العلاقات بيننا من تحدٍّ. قتل قايين أخيه هابيل، وارتفع صدى سؤال الله: “أين هابيلُ أخوك؟” (تك 4، 9). ونحن نعطي الجواب نفسه بشكل متكرّر: “أَحارِسٌ لأَخي أَنا؟” (المرجع نفسه). بسؤاله هذا، يشكّك الله في جميع أنواع الحتمية أو القدرية التي تسعى إلى تبرير اللامبالاة باعتبارها الجواب الوحيد الممكن. لا بل إنه يمنحنا القدرة على إنشاء ثقافة مختلفة تقودنا إلى تخطّي العداوات والعناية ببعضنا البعض.
- 58. يرتكز سفر أيّوب على حقيقة مؤدّاها أنّ الخالق هو واحدٌ للجميع كي يؤكّد بعض الحقوق المشتركة: “أَوَلَيسَ الَّذي صَنَعَني في البَطنِ هو صَنَعَهما ووَاحِدٌ كَوَّنَنا في الرَّحِم؟” (أي 31، 15). وبعد عدّة قرون، عبّر عن الفكرة نفسها القدّيس إيريناوس بكلمات أخرى مستندًا على صورة اللحن: “يجب ألّا ينخدع محبّي الحقيقة باختلاف كلّ نغمة، ولا أن يفترض وجود مبدع للواحدة ومبدع آخر للأخرى […]، إنما المبدع واحدٌ”[54].
- 59. كانت وصيّة محبّة الآخر والعناية به، في التقاليد اليهودية، تبدو كأنها تقتصر على العلاقات بين أبناء الأمّة نفسها. وكان يُفهم عادة المبدأ القديم “أحبب قريبك كنفسك” (أح 19، 18) على أنه يشير إلى هؤلاء الأبناء. ومع ذلك، فالحدود كانت تتّسع لا سيما في التقاليد اليهودية التي تطوّرت خارج أرض إسرائيل. فظهرت دعوة «ألَّا تَفْعَلَ بِالْآخَرِينَ مَا لَا تَوَدُّ أَنْ يَفْعَلُوهُ بِكَ» (را. طو 4، 15). وقال فيها الحكيم هيلّيل (القرن الأوّل قبل الميلاد): “هذه هي الشريعة والأنبياء. وكلّ ما دونها هو تعليق”[55]. وأدّت الرغبة في التشبّه بالمواقف الإلهية إلى تخطّي هذا الميل إلى اعتبار الأقربين وحسب: “إن الإنسان يرحم قريبه فقط، لكن الربّ رحيم تجاه جميع الأحياء” (سي 18، 13).
- 60. أمّا في العهد الجديد، فقد ظهر مبدأ هيلّيل بصيغة إيجابية: “كُلُّ ما أَرَدْتُم أَن يَفْعَلَ النَّاسُ لكُم، اِفعَلوهُ أَنتُم لَهم: هذِه هيَ الشَّريعَةُ والأَنبِياء” (متى 7، 12). إنّ هذه الدعوة هي عالمية، تميل إلى شمل الجميع، لمجرّد كونهم بشر، لأن العليّ، الآب السماوي “يُطلِعُ شَمْسَه على الأَشرارِ والأَخيار” (متى 5، 45). وبالتالي يوصي: “كونوا رُحَماءَ كما أَنَّ أَباكُم رَحيم” (لو 6، 36).
- 61. هناك دافع لأن نوسّع قلبنا حتى لا يستثني النزيل، ونجد هذا الدافع في أقدم نصوص الكتاب المقدّس. وذلك لأن الشعب اليهودي يتذكّر بشكل دائم أنه عاش كنزيل في مصر:
“والنَّزيلُ فلا تَظلِمْه ولا تُضايِقْه، فإِنَّكم كُنتُم نُزَلاءَ في أَرضِ مِصْر” (خر 22، 20).
“ولا تُضايِقِ النَّزيل، لأَنَّكم تَعلَمونَ ما في نَفْسِ النَّزيل، فإِنَّكم كُنتُم نُزَلاءَ في أَرضِ مِصْر” (خر 23، 9).
“وإِذا نَزَلَ بِكم نَزيلٌ في أَرضِكم، فلا تَظلِموه. ولْيَكُنْ عِنْدَكُمُ النَّزيلُ المُقيمُ فيما بَينَكم كآبنِ بَلَدِكم، تُحِبُّهُ حُبَّكَ لِنَفسِكَ، لأَنَّكم كُنتُم نُزَلاءَ في أَرضِ مِصْر: أَنا الرَّبُّ إِلهُكم” (أح 19، 33- 34).
“وإِذا قَطَفتَ كَرمَكَ، فلا تُراجعْ ما بَقِيَ مِنه، إِنَّه لِلنَزيلِ واليَتيمِ والأَرمَلَةِ يَكون. واذكُرْ أَنَّكَ كُنتَ عَبْدًا بِمِصْر، لِذلك أَنا آمُرُكَ بأَن تَصنَعَ هذا الأَمْر” (تث 24، 21- 22).
وفي العهد الجديد، يتردّد بقوّة صدى الدعوة إلى المحبّة الأخوية:
“لأَنَّ تمامَ الشَّريعةِ كُلِّها في هذهِ الكَلِمةِ الواحِدة: “أَحبِبْ قَريبَكَ حُبَّكَ لِنَفْسِكَ“” (غل 5، 14).
“مَن أَحَبَّ أَخاه أَقامَ في النُّور ولم يَكُنْ فيه سَبَبُ عَثرَة. أمَّا مَن أُبغَضَ أَخاه فهو في الظَّلامِ وفي الظَّلامِ يَسير فلا يَدْري إِلى أَينَ يَذهَب لأَنَّ الظَّلامَ أَعْمى عَينَيه” (1 يو 2، 10- 11).
“نَحنُ نَعلَمُ أَنَّنا انتَقَلْنا مِنَ المَوت إِلى الحَياة لأَنَّنا نُحِبُّ إِخوَتَنا. مَن لا يُحِبُّ بَقِيَ رَهْنَ المَوت” (1 يو 3، 14).
“الَّذي لا يُحِبُّ أَخاه وهو يَراه لا يَستَطيعُ أَن يُحِبَّ اللهَ وهو لا يَراه” (1 يو 4، 20).
- 62. إنّ اقتراح المحبّة هذا يمكن أيضًا أن يُساء فهمه. فإزاء ميل الجماعات المسيحيّة الأولى إلى إنشاء مجموعات مغلقة ومعزولة، حثّ القدّيسُ بولس تلاميذَه، ولم يكن ذلك دون سبب، على تنمية المحبّة لبعضهم البعض “ولجميع الناس” (1 تس 3، 12)، وطُلِبَ في جماعة يوحنا الترحيبُ بالإخوة “مع أنهم غرباء” (3 يو 5). إنّ هذا السياق يساعد على فهم قيمة مَثَل السامريّ الصالح: فالمحبّة لا تبالي بما إذا كان الأخ الجريح يأتي من هنا أو من هناك. لأن المحبّة “تكسر السلاسل التي تعزلنا وتفصلنا، وتبني الجسور. المحبّة تسمح لنا ببناء عائلة كبيرة يمكن أن نشعر جميعنا بها أننا في البيت، […] وتعرف التعاطف والكرامة”[56].
- 63. يروي يسوع أنه كان هناك رجل جريح ملقى على الطريق، تعرّض للاعتداء. مرّ عدّة أشخاص بالقرب منه لكنهم هربوا، لم يتوقّفوا. كانوا أشخاصًا لهم وظائف مهّمة في المجتمع، لكن لم يكن في قلبهم محبّة الخير العام. لم يتمكّنوا من إعطاء بضع دقائق للاعتناء بالجريح أو على الأقلّ لطلب المساعدة. ولكن توقّف شخص ما، وأظهر له قربه، وعالجه بيديه، وأخرج المال من جيبه واعتنى به. وفوق كلّ شيء، أعطاه شيئًا نبخل به كثيرًا في هذا العالم المتسرّع: أعطاه وقته. كان لديه بالتأكيد مشروعه للاستفادة من ذلك اليوم وفق حاجاته أو التزاماته أو رغباته. لكنه استطاع أن يضع كلّ شيء جانبًا إزاء الرجل الجريح، ودون أن يعرفه، اعتبره جديرًا بأن يخصّص له وقته.
- 64. مِثل أيّ واحد منهم أنت؟ هذا السؤال فظّ ومباشر وحاسم. أيّ واحد منهم تُشبه؟ نحن بحاجة للاعتراف بالميل الذي يحدق بنا إلى تجاهل الآخرين؛ وخاصّة الضعفاء. لنكن صادقين، لقد تقدّمنا في جوانب عديدة، لكننا أُمّيّون على مستوى مرافقة ورعاية ومساندة الأشخاص الأكثر هشاشةٍ وضعفٍ في مجتمعاتنا المتطوّرة. لقد اعتدنا على أن نميل نظرنا، ونميل عن الآخر، ونتجاهل الأوضاع إلى أن تطالنا مباشرة.
- 65. اعتدوا على شخص في الشارع، وهرب الكثيرون كما لو أنهم لم يروا شيئًا. غالبًا ما يصدم بعض الأشخاصُ بسيّاراتهم أحدَهم ويهربون. ما يهمّهم هو تجنّب المشاكل فحسب، ولا يبالون بما إذا مات الشخص بسببهم. لكن هذه العلامات هي علامات نمط حياة واسع الانتشار، يظهر بطرق مختلفة، ومنها علامات قد تكون أكثر خفية. وكذلك، نظرًا لأننا جميعًا نركّز باهتمام على احتياجاتنا الخاصّة، فإن رؤية شخص ما يعاني تضايقنا، وتزعجنا، لأننا لا نريد إضاعة وقتنا بسبب مشاكل الآخرين. إنّ هذه الأعراض هي أعراض مجتمع مريض، لأنه يسعى لبناء ذاته مُعرِضًا عن الألم.
- 66. من الأفضل عدم الوقوع في هذا البؤس. لننظر إلى مثل السامري الصالح. يدعونا هذا النصّ إلى تجديد دعوتنا باعتبارنا مواطنين في بلادنا وفي العالم بأسره، وباعتبارنا بناة لروابط اجتماعية جديدة. إنها دعوة دائمة الجِدَّة، على الرغم من أنها كُتِبَت شريعةً أساسيّة لكياننا: فهي دعوة لأن يتوجّه المجتمع نحو السعي لتحقيق الخير العام، ومن هذا المنطلق، إنها دعوة لأن يعيد المجتمع بناء نظامه السياسي والاجتماعي، ونسيج علاقاته، ومشروعه البشري. فقد أظهر السامري الصالح من خلال أعماله أنّ “وجود كلّ واحد منّا مرتبط بوجود الآخرين: الحياة ليست وقت يمرّ، بل وقت لقاء”[57].
- 67. هذا المثل هو صورة منيرة، قادرة على إلقاء الضوء على الخيار الأساسي الذي نحتاج إلى القيام به من أجل إعادة بناء هذا العالم الذي يؤلمنا. إزاء الكثير من الألم، إزاء الكثير من الجراح، المخرج الوحيد هو أن نكون مثل السامري الصالح. وأيّ خيار آخر يقودنا إمّا إلى جهة اللصوص أو إلى جهة الذين يمرّون، دون أن يشفقوا على الشخص الجريح في الطريق. يوضّح لنا المثل ما هي المبادرات التي يمكن من خلالها إعادة بناء المجتمع، انطلاقًا من رجال ونساء يتبنّون ضعف الآخرين، ولا يسمحون ببناء مجتمعٍ يقوم على الاستبعاد، بل يُظهِرون قُربَهم من الذي يسقط ويقيمونه ويعيدون تأهيله، بحيث يكون الخير مشتركًا. ويحذّرنا المثل في الوقت ذاته، من بعض تصرّفات الأشخاص الذين يهتمّون فقط لأنفسهم ولا يتكفّلون بمطالب الواقع البشري التي لا مفرّ منها.
- 68. هذه الرواية -بكلّ صراحة-، لا تمرّر تعليمًا يتناول مُثُلًا مجرّدة، كما أنها لا تقتصر على مغزاها الأخلاقي-الاجتماعي. بل تكشف لنا ميزة أساسية للإنسان، كثيرًا ما تُنسى: أننا خُلِقنا بُغيَةَ الملء الذي لا نتوصّل إليه إلّا بالمحبّة. أمّا العيش بغير مبالاة إزاء الألم فليس خيارًا ممكنًا، لا يمكننا أن نترك شخصًا “في هامش الحياة”. بل إنّ هذا يجب أن يغيظنا، ويُنزِلنا من طمأنينتنا حتى نتألّم مع ألم الإنسانية. هذه هي الكرامة.
- 69. الرواية هي بسيطة ومسارُها مستقيم واضح، ولكنّها تحتوي على كلّ ديناميكيّة الصراع الداخليّ الذي نعيشه في صياغة هويتنا، وفي كلّ حياة تنطلق في طريق تحقيق الأخوّة البشرية. نحن نصطدم حتمًا في طريقنا مع شخص مجروح. وهناك اليوم المزيد والمزيد من الأشخاص المجروحين. إنّ إدماج أو استبعاد الشخص الذي يتألّم على هامش الطريق، يحدّد جميع المشاريع الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والدينية. نحن نواجه كلّ يوم خيارَ أن نكون سامرّيين صالحين أو مارّين غير مبالين مرورَ الكرام. وإذا بسطنا نظرنا على كامل تاريخنا وعلى العالم المديد والواسع، فسوف نجد أننا جميعًا، أو أننا قد كنّا، مثل هذه الشخصيّات: لدينا جميعًا شيءٌ من الرجل الجريح، وشيءٌ من اللصّ، وشيءٌ من الذين يمرّون مرور الكرام، وشيءٌ من السامري الصالح.
- 70. لقد تغيّر اختلاف الشخصيّات في القصّة تغييرًا تامًّا عند رؤيتهم المظهر المؤلم للرجل المُلقى أرضًا، والمُهان، وهذا التغيير جدير بالاهتمام. فلم يعد هناك تمييز بين سكّان يهوذا وسكّان السامرة، لم يعد هناك كاهن أو تاجر؛ هناك ببساطة نوعان من الأشخاص: الذين يتحمّلون الألم والذين يمرّون؛ الذين ينحنون لأنهم يتعرّفون على الرجل الملقى في الطريق والذين يصرفون نظرهم ويُسرعون خطواتهم. هنا، في الحقيقة، تسقط أقنعتنا المتعدّدة وملصقاتنا وأزيائنا: لأنها لحظة الحقيقة. هل سننحني لنلمس ونعتني بجراح الآخرين؟ هل سننحني لنحمل بعضنا البعض؟ هذا هو التحدّي الحالي الذي يجب ألّا نخاف منه. في الأزمات، يصبح الخيار مُلحًّا: يمكننا القول في هذه اللحظة، إنّ كلّ مَن ليس سارقًا وكلّ من لا يمرّ مرور الكرام، هو إمّا جريح وإمّا يحمل على أكتافه شخصًا جريحًا.
- 71. إن قصّة السامري الصالح تتكرّر: وأصبح من الواضح أنّ الاهمال الاجتماعي والسياسي قد حوّل أجزاء كثيرة من عالمنا إلى طرق مهجورة، تَترك فيها النزاعات الداخلية والدولية ونهب الفرص، الكثيرَ من المهمّشين، وتلقي بهم إلى جانب الطريق. لا يقترح يسوع طرقًا بديلة في مَثَله، مثل: ماذا كان سيحدث لذلك الرجل الجريح أو للرجل الذي ساعده، لو أنّ الغضب أو العطش للانتقام دخل قلبيهما؟ يسوع يثق بأفضل ما في الروح البشرية من غنى، ويشجّعها في المثل على التمسّك بالمحبّة، والاعتناء بالرجل المتألّم، وبناء مجتمع جدير بهذا الاسم.
- 72. يبدأ المَثل باللصوص. والبداية التي اختارها يسوع هي اعتداء كان قد حدث. لا يجعلنا نتوقّف لنستنكر الحدث، ولا يوجّه نظرنا نحو اللصوص. نحن نعرفهم. فقد رأينا في العالم توسّع ظلال التخلّي، والعنف المُستَخدّم لمصالح دنيئة في السلطة والتكديس والانقسام. قد يكون السؤال: هل نتخلّى عمَّن يتألّم كي نحمي ذواتنا من العنف أم كي نطارد اللصوص؟ هل يكون الجريح مبرِّرا لانقساماتنا التي لا حلّ لها، وعدم مبالاتنا القاسية، ومواجهاتنا الداخلية؟
- 73. ثم يجعلنا المَثل نلقي نظرة واضحة على الذين يمرّون مرور الكرام. هذه اللامبالاة الخطيرة التي تتجلّى بِعَدَم توقّفهم، سواء كان بريئًا أم لا، والذي هو نتيجة الازدراء أو الشرود المُحزن، تجعل من شخصيّتَي الكاهن واللاوي انعكاسًا –هو الآخر مُحزِنًا- لتلك المسافة التي تفصلُ الشخصَ فصلًا قاطعًا عن الواقع. هناك طرق عديدة للمرور بتجاهل، طرق تكمّل بعضها البعض: إحداها هو الشرود في الذات، وإغفال الآخرين، وعدم الاكتراث؛ وأخرى هي مجرّد النظر إلى الخارج. ففيما يتعلّق بهذه الطريقة الأخيرة، نجد في بعض البلدان، أو في قطاعات معيّنة منها، ازدراء للفقراء ولثقافتهم، وهناك عيش والنظر محوّل إلى الخارج، كما لو كان مشروعُ بلدٍ مستَورَدٍ من هذا الخارج، هو بمنزلة مثال لهم، يحاولُ أن يحتلّ مكانهم. ويمكن بهذه الطريقة تبرير عدم مبالاة البعض، لأن الذين يستطيعون لمس قلوبهم بمطالبهم لا وجود لهم بكلّ بساطة. هم خارج أفق مصالحهم.
- 74. هناك تفصيل يميّز الذين يمرّون مرور الكرام لا يمكننا تجاهله: كانوا أشخاصًا متديّنين. علاوة على ذلك، وقفوا أنفسهم على عبادة الله: كاهن ولاوي. وهذا جدير بانتباه خاصّ: فهذا يشير إلى أنّ الإيمان بالله وعبادته لا يضمن العيش بما يرضي الله. قد لا يكون المؤمن مخلصًا لكلّ ما يتطلّبه منه هذا الإيمان، إلّا أنه قد يشعر أنه قريب من الله ويظنّ أنه أجدر من الآخرين. لكن هناك طرق لعيش الإيمان تساعد على فتح القلب للإخوة، وفتح القلب هذا للأخوّة هو الضمان للانفتاح الحقيقي لله. توصّل القدّيس يوحنا الذهبي الفمّ لأن يعبّر بوضوح تامّ عن هذا التحدّي الذي يواجهه المسيحيّون: “هل تريدون إكرام جسد المسيح؟ لا تحتقروه عندما ترونه عريانًا […] لا تكرّموه هنا، في المعبد، بثياب حريرية، إذا كنتم خارجًا تتركونه في برده وعريه”[58]. المفارقة هي أنه في بعض الأحيان، قد تكون طاعةُ الذين يقولون إنهم لا يؤمنون لمشيئةِ الله، أفضلَ من طاعة المؤمنين لها.
- 75. لدى “لصوص الطريق” حلفاءٌ سرّيّون، وغالبًا ما ينتمون إلى الذين “يمرّون على الطريق محوّلين نظرهم في الاتّجاه الآخر”. فالدائرة هي مُغلَقة بين الذين يستخدمون المجتمع ويخدعونه لابتزازه، والذين يعتقدون أنهم يحافظون على نقائهم في وظيفتهم الصعبة، ولكنهم يعيشون في الوقت ذاته من هذا النظام وموارده. إنه لرياءٌ محزن: حيث ينضمُّ الإفلاتُ من العقاب، والجرائمُ واستخدامُ المؤسّسات لتحقيق مكاسب شخصية أو مؤسّسية، وغيرها من الشرور التي فشلنا في القضاء عليها، إلى فعلِ التشكيك الدائم بكلّ شيء، والبثّ المستمرّ للريبة التي تسبّب عدم الثقة والحيرة. وخدعة الـ “كلّ شيء يسير على نحو خاطئ” تتوافق مع “لا أحد يستطيع إصلاح الأمور”، و “ماذا يمكنني أن أفعل؟”. إننا نغذّي بهذه الطريقة، خيبة الأمل واليأس، وهذا لا يشجع روحَ التضامن والسخاء. إغراق الناس في الإحباط هو مفتاح الحلقة المفرغة المثالية: إنه الأسلوب الذي تتّبعه ديكتاتورية خفيّة، ديكتاتورية المصالح الحقيقية غير المرئية التي استولت على الموارد وعلى القدرة على التعبير عن الآراء والتفكير.
- 76. وختامًا دعونا نلقي نظرة على الرجل الجريح. نشعر أحيانًا مثله، أنّ جراحنا خطيرة وأننا مطروحون على جانب الطريق. كما نشعر بالعجز بسبب مؤسّساتنا التي لا قوّة لها ولا موارد، أو موجّهة لخدمة مصالح عدد قليل من الأشخاص، من الخارج ومن الداخل. لأن “هناك في المجتمع المعولم، أسلوبٌ أنيقٌ لتحويل النظر يُمارَس بشكل متكرّر: تحت غطاء الصوابية السياسية أو الإيديولوجيات الشائعة، ننظر إلى الذين يعانون دون أن نلمسهم، وننقلهم على الهواء مباشرة، وحتى أننا نتبنّى خطابًا متسامحًا ظاهريًّا ومليء بالتلميحات”[59].
- 77. تُتاح لنا كلّ يوم، فرصة جديدة، ومرحلة جديدة. ليس علينا أن ننتظر كلّ شيء من الذين يحكموننا، فهذا تصرّف طفوليّ. فنحن نملك فسحة من المسؤولية المشتركة، قادرة على إطلاق وإنشاء عمليّات وتحوّلات جديدة. علينا أن نكون نشطين في إعادة تأهيل المجتمعات المجروحة ومساندتها. إننا اليوم أمام فرصة عظيمة لإظهار جوهرنا الأخويّ، ولأن نكون سامريّين صالحين آخَرين يتحمّلون ألمَ الفشلِ، بدلًا من التحريض على الكراهية والضغينة. على غرار المسافر العابر في روايتنا، كلّ ما هو مطلوب إنما هي الرغبة الحرّة والنقية والبسيطة في أن نكون شعبًا، وأن نكون ثابتين ودؤوبين في عمليّة إقامة الذي يسقط وضمّه وإدماجه؛ رغم أننا غالبًا ما نجد أنفسنا منغمسين ومجبورين على تكرار منطق العنف، منطق الذين يتطلّعون فقط إلى ذواتهم، ويبثّون الارتباك والأكاذيب. لنَدَع الآخرين يواصلون التفكير في السياسة أو الاقتصاد لصالح لعبة السلطة. أمّا نحن فلنُنَمِّ ما هو صالح ولنَخدُم الخير.
- 78. باستطاعتنا أن نبدأ من الأسفل، وانطلاقًا من شخص واحد، وأن نجاهد في سبيل ما هو أكثر واقعية وما هو محلّي، وحتى آخر زاوية من الوطن والعالم، فنقدّم نفس الرعاية التي قدّمها السامري لكلّ جرح من جراحات الرجل المُصاب. فلنبحث عن الآخرين ونأخذ على عاتقنا الواقع وفق مقدورنا، دون خوف من الألم أو العجز، لأن في هذا التصرّف كلّ الخير الذي زرعه الله في قلب الإنسان. الصعوبات التي تبدو هائلة هي فرصة للنموّ، وليست عذراً للحزن الخامل الذي يفتح المجال للخضوع. ولكن يجب ألّا نقوم بذلك بمفردنا. لقد بحث السامري عن مُضيف يستطيع رعاية هذا الرجل، نحن أيضًا مدعوّون للاجتماع واللقاء في جماعة، في “نحن”، أقوى من مجموع الأفراد؛ تذكّروا أنّ “الكلّ أكثر من الجزء، وأكثر أيضًا من مجرّد مجموع تلك الأجزاء”[60]. فلنبتعد عن التفاهة وعن الاستياء الذي تسبّبه الخصوصيّات العقيمة، وعن المواجهات التي لا تنتهي. فلنتوقّف عن إخفاء ألم الخسائر ولنتحمّل مسؤولية جرائمنا وخمولنا وأكاذيبنا. فالمصالحة التي تُصلِح، سوف تُقيمنا من جديد وتحرّرنا من خوفنا من أنفسنا ومن الآخرين.
- 79. مضى السامري في طريقه دون أن ينتظر الاعتراف بالجميل أو الشكر. كان التفاني في الخدمة هو أكثر ما أرضاه أمام إلهه وحياته، ولذا فهو واجب. لدى جميعنا مسؤولية تجاه الرجل الجريح الذي هو الشعب بذاته وجميع شعوب الأرض. فلنعتنِ بضعف كلّ رجل، وكلّ امرأة، وكلّ طفل، وكلّ رجل مسنّ، وقلبنا مستعدّ لتقديم العناية والاهتمام، بنفس استعداد السامري الصالح لإظهار قربه من الآخر.
- 80. لقد اقترح يسوع هذا المثل إجابةً عن السؤال: مَن هو قريبي؟ كانت تشير كلمة “قريب” في مجتمع ذاك الزمن إلى مَن هو الأقرب، أي المجاور. كان من المفهوم أنه يجب توجيه المساعدة، أولاً وقبل كلّ شيء، إلى الذين ينتمون إلى جماعتهم أو إلى عرقهم. وكان بعض اليهود ينظرون إلى السامري آنذاك على أنه كائن حقير ونجس، وبالتالي لم يكن ينتمي إلى الأشخاص المقرّبين الذين يجب مساعدتهم. وقد غيّر يسوع، الذي هو يهوديّ أيضًا، هذا النهج بالكامل: فهو لا يدعونا للتساؤل عمَّن هو قريبنا، إنما لنصبح نحن أقرباء الآخرين.
- 81. الاقتراح هو أن نكون إلى جانب الذين يحتاجون إلى المساعدة، بغضّ النظر عمّا إذا كانوا ينتسبون إلى دائرة الانتماء نفسها. وفي هذه الحالة، كان السامريّ هو الذي أصبح قريبَاليهودي الجريح. وكي يصبح قريبًا وحاضرًا، تخطّى جميع الحواجز الثقافية والتاريخية. اختتم يسوع المثل بطلب: “اِذْهَبْ فاعمَلْ أَنتَ أَيضاً مِثْلَ ذلك” (لو 10، 37). أي أنه يدفعنا لأن نضع جانبًا جميع الاختلافات، وأن نصير، إزاء المعاناة، أقرباء أيّ شخص كان. لذا، أنا لا أقول إنّ لديّ “قريب” يجب أن أساعده، بل أشعر أنني مدعوّ لأن أصبح قريب الآخرين.
- 82. المشكلة هي أنّ يسوع يشير، بوضوح، إلى أنّ الجريح كان يهوديًا -من سكّان يهوذا- بينما الشخص الذي توقّف وساعده كان سامريًا -من سكّان السامرة-. لهذه التفاصيل أهمّية استثنائية إذا أردنا التفكير في محبّة منفتحة على الجميع. كان السامريّون يقيمون في منطقة وصلتها عدوى الطقوس الوثنية، وهذا صيّرهم، بالنسبة لليهود، أنجاسًا، وبغضاء وخطيرين. فالنصّ اليهوديّ القديم الذي يذكُر الأمم المكروهة، في الواقع، يشير إلى السامرة، ويؤكّد كذلك أنها “لَيسَت بِأُمَّة” (سي 50، 25)، ويضيف أنه “الشَّعبُ الأَحمَقُ السَّاكِنُ في شَكيم” (50، 26).
- 83. هذا ما يفسّر إجابة المرأة السامرية ليسوع عندما طلب منها أن يشرب: “كَيفَ تسأَلُني أَن أَسقِيَكَ وأَنتَ يَهوديٌّ وأنا امرَأَةٌ سامِريَّة؟” (يو 4، 9). والذين كانوا يبحثون عن اتّهامات تَقدِر أن تشّوه سمعة يسوع، فإن أكثر شيء مسيء وجدوه كان بقولهم له “بِكَ مَسًّا” و “أنك سامري” (يو 8، 48). ولذا، فإن هذا اللقاء الرحيم بين سامريّ ويهوديّ إنما هو استفزاز قويّ ينفي أيّ تلاعب أيديولوجي، كي نوسّع دائرتنا، ونمنح قدرتنا على المحبة بُعدًا عالميًّا قادرًا على تخطّي جميع الأحكام المسبقة، وكلّ الحواجز التاريخية أو الثقافية، وكافّة المصالح الرخيصة.
- 84. وأخيرًا، أذكّر أنّ يسوع قال في فقرة أخرى من الإنجيل: “كُنتُ غَريباً فآويتُموني” (متى 25، 35). كان باستطاعة يسوع أن يقول هذه الكلمات لأن قلبه كان مفتوحًا، يتبنّى مأساة الآخرين. وكان القدّيس بولس يشجّع قائلًا: “افرَحوا مع الفَرِحين وابْكوا مع الباكين” (روم 12، 15). عندما يتّخذ القلب هذا الموقف، يقدر أن يتماهى مع الآخر، بغضّ النظر عن مكان ولادته أو عن أصله. عندما ندخل في هذه الديناميكية، يختبر القلب في النهاية أنّ الآخرين هم من “لَحمِه” (را. أش 58، 7).
- 85. إن كلمات يسوع، بالنسبة للمسيحيّين، تحمل بعدًا متسامٍ آخر. فهي تعني التعرّف على المسيح نفسه في كلّ أخ متروك أو مُستَبعَد (را. متى 25، 40. 45). في الحقيقة، إنّ الإيمان يملأ هذا التعرّف بدوافع جديدة، لأن الذي يؤمن يتوصّل لأن يعترف أنّ الله يحبّ كلّ إنسان بمحبّة لامتناهية وأنه “يمنحه معها كرامة لامتناهية”[61]. نضيف إلى ذلك أننا نؤمن بأن المسيح قد أهرق دمه من أجل الكلّ وكلّ واحد، ولذلك ما من أحد يُترك خارج محبّته الشاملة. وإذا ذهبنا إلى المصدر النهائي، الذي هو حياة الله الحميمة، فسوف نجد جماعةً من ثلاثة أقانيم، هي أصل كلّ حياة مشتركة ونموذجها المثالي. ما زال اللاهوت يزداد غنًى بفضل تأمّله في هذه الحقيقة العظمى.
- 86. أندهش أحيانًا من أنّ رغم هذه الدوافع، استغرقت الكنيسة وقتًا طويلاً لإدانة العبودية وأشكال العنف المختلفة. واليوم، مع تطوّر الروحانية واللاهوت، ليس لدينا أعذار. ومع ذلك، لا يزال هناك أشخاص يبدو أنهم يعتقدون أنّ دينهم يسمح لهم أو يدفعهم لأن يساندوا أشكالًا مختلفة من القوميات المغلقة والعنيفة، ومواقفَ معادية للغرباء، والازدراءَ تجاه الذين ليسوا مثلهم وحتى سوءَ معاملتهم. يجب أن يحافظ الإيمان، مع الإنسانية التي يشملها، على حسّ نقديّ حيّ إزاء هذه الميول، وأن يساعد على تفاعلٍ سريعٍ ما إن تبدأ بالظهور. لذا، فمن المهمّ أن يشمل التعليم المسيحيّ والوعظ، بشكل مباشر وواضح، المعنى الاجتماعي للوجود، والبعد الأخويّ للروحانيّة، والاقتناع بالكرامة القاطعة لكلّ شخص، والدوافع إلى محبّة الجميع وقبول الجميع.
- 87. لقد صيغَ الإنسان بطريقة لا تسمح له بأن يحقّق ذاته أو يتطوّر أو يجد الملء “إلّا ببذلِ ذاته دون مقابل للآخرين”[62]. حتى أنه لا يدرك تمامًا حقيقته الخاصّة إلّا عبر لقائه بالآخرين: “أنا في الواقع لا أتواصل مع نفسي إلّا بقدر ما أتواصل مع الآخر”[63]. وهذا يفسّر سبب عدم قدرة أيّ شخص على اختبار قيمة الحياة بدون وجوه ملموسة يحبّها. هنا سرّ الوجود الإنساني الحقيقي، لأن “الحياة موجودة حيث يوجد رابط وشركة وأُخُوّة، وهي أقوى من الموت عندما تكون مبنيّة على علاقات حقيقية وعلى روابط الأمانة. على العكس من ذلك، لا توجد حياة يَدَّعِي فيها البعض أنهم ينتمون إلى أنفسهم فقط ويعيشون في العزلة. في مثل هذه المواقف، يسود الموت”[64].
- 88. إن الحبّ ينشئ روابط من عمق القلب، ويجعل الحياة أرحب، عندما يُخرِج الشخصَ من ذاته نحو الآخر[65]. فقد خُلِقنا كي نحبّ، وفي كلّ واحد منّا نوع من “شريعة النشوة: وهي الخروج من الذات لنجد في كيان الآخر نموًا لوجودنا”[66]. لذا “فعلى أيّ حال، يجب على الإنسان أن يقوم بهذه الخطوة: أن يخرج من ذاته”[67].
- 89. لكن لا يمكن أن تقتصر حياتي على علاقة مع مجموعة صغيرة، ولا حتى مع عائلتي، لأنه من المستحيل أن أفهم نفسي بدون نسيج أوسع من العلاقات: ليس فقط النسيج الحالي إنما أيضًا ذاك الذي سبقني وصاغَني طوال حياتي. لا تستطيع علاقتي مع شخص أقدّره أن تتجاهل أنّ هذا الشخص لا يعيش فقط لعلاقته بي، ولا أنا أعيش فقط لصلتي به. علاقتنا، إذا كانت علاقتنا سليمة وأصيلة، فإنّها تفتحنا على الآخرين الذين يجعلوننا ننمو ونغتني. إنّ المعنى الاجتماعي الأنبل تُلغيه اليوم بسهولة علاقاتٌ حميمة أنانية تظهر كأنها علاقات قويّة. أمّا الحبّ الأصيل، الذي يساعد على النمو، وأنبل أشكال الصداقة، يكمن في قلوب تسمح بأن يكملّها الآخرون. فالعلاقة بين الزوجين ومع الصديق إنما هي كي تفتح قلبنا من حولنا، فنصبح قادرين على الخروج من ذواتنا ونتوصّل لأن نرحّب بالجميع. أمّا المجموعات المغلقة والأزواج ذوات المرجعة-الذاتية، الذين يشكلون نوعًا من “نحن” ضدّ الجميع، فغالبًا ما يكونوا أشكالًا من الأنانية تظهر كأنها مثالية، وهي مجرّد حماية ذاتية.
- 90. ليس من المستغرب أن تكون الشعوب العديدة الصغيرة التي تعيش في مناطق صحراوية قد أنمت قدرة كبيرة على استقبال الحجّاج الذين يمرّون، واستحدثت واجب الضيافة المقدّس. عاشت الجماعات الرهبانية في العصور الوسطى هي أيضًا واجب الضيافة هذا، كما هو مذكور في القانون الرهباني بحسب القدّيس بندكتس. ورغم أنّ هذه الضيافة كان باستطاعتها أن تزعج نظام الأديرة وصمتها، إلّا أنّ بندكتس طالب “بمعاملة الفقراء والحجّاج بأقصى درجات الرعاية والعناية”[68]. الضيافة هي طريقة ملموسة لعدم حرمان ذواتنا من هذا التحدّي ومن هذه العطيّة التي هي اللقاء مع الإنسانية خارج جماعتنا الخاصّة. إنّ هؤلاء الأشخاص قد أدركوا أن كلّ القيم التي كان بإمكانهم تنميتها يجب أن تكون مصحوبة بهذه القدرة على تجاوز ذواتهم في انفتاحهم على الآخرين.
- 91. يستطيع الناس أن ينمّوا بعض الصفات ويقدّمونها على أنها قيم أخلاقية: القوّة، والرصانة، والعمل المجتهد، والفضائل الأخرى. ولكن كيما تُوَجَّه أعمال الفضائل الأخلاقية المختلفة توجيهًا صحيحًا، من الضروري أيضًا النظر في مدى قدرتها على إنشاء ديناميكية من الانفتاح والاتّحاد تجاه الآخرين. تلك الديناميكية هي المحبّة التي ينشرها الله. وخلاف ذلك، قد تكون الفضائل بالمظهر فقط، وتعجز عن بناء حياة مشتركة. ولذا فقد قال القدّيس توما الأكويني -نقلاً عن القدّيس أوغسطينوس- إنّ الشخص الجشع حتى وإن تحلّى بالاعتدال فهذا ليس بفضيلة[69]. وأوضح القدّيس بونافنتورا بعبارة أخرى، أنّ الفضائل الأخرى، دون المحبّة، لا تفي قطعًا بالوصايا “كما يريدها الله“[70].
- 92. يتميّز السموّ الروحيّ في حياة الإنسان بالمحبّة التي هي “معيار القرار النهائي في التقييم الإيجابي أو السلبي لحياة الإنسان”[71]. ومع ذلك، هناك مؤمنون يعتقدون أنّ عظمتهم تكمن في فَرضِ أيديولوجياتهم على البقيّة، أو في الدفاع العنيف عن الحقيقة، أو في إظهارٍ شاسع لقوّتهم. نحتاج نحن المؤمنين جميعًا لأن ندرك أن: المحبّة هي الأهمّ، والأمر الذي يجب ألّا نخاطر به أبدًا إنما هي المحبّة، والخطر الأكبر هو عدم المحبّة (را. 1 قور 13، 1- 13).
- 93. في محاولةٍ لتوضيح ما هي خبرة المحبّة التي جعلها الله ممكنة بنعمته، فسّرها القدّيس توما الأكويني على أنها تشبه حركةً تُركِّز الانتباهَ على الآخر “معتبرة إيّاه واحدًا مع الشخص نفسه”[72]. الاهتمام الودّي الذي نقدّمه للآخر يجعلنا نتجّه نحو السعي المجاني وراء مصلحته. كلّ هذا يبدأ من تقديرٍ وتقييمٍ، نجده في النهاية في معنى كلمة “محبّة”: الشخص المحبوب “غالٍ” على قلبي، كأني أقول “أعتبرك ذات قيمة عالية”[73]. “من المحبّة التي يحملها المرء لشخص آخر، ينبع كلّ عطاءٍ مجانيّ له”[74].
- 94. فالمحبّة تعني بالتالي أكثر من مجرّد سلسلة من أعمال مفيدة. لأن هذه الأعمال تنبع من اتّحاد يجعلنا ننحني أكثر فأكثر نحو الآخر، معتبرين إياه قيّما وجديرًا ومَرضيًّا وجميلًا، أبعد من المظاهر الجسدية أو الخُلُقية. تدفعنا محبّتنا للآخرين لما هم عليه، إلى البحث عن الأفضل لحياتهم. ولن نستطيع التحضير لتحقيق الصداقة الاجتماعية التي لا تستبعد أيّ شخص، والأخوّة المفتوحة للجميع، إلّا عبر تنميةٍ للعلاقات بهذه الطريقة.
- 95. إن المحبّة في النهاية تجعلنا نتوق إلى شركة روحيّة شاملة. فلا أحد ينضج أو يبلغ الملءَ بعزل نفسه. لأن المحبة بفعل ديناميكيتها، تتطلّب انفتاحًا تدريجيًّا، وقدرة أكبر على الترحيب بالآخرين، في مغامرة لا تنتهي، توجّه جميعَ الأطراف نحو إحساس كامل بالانتماء المتبادل. قال لنا يسوع: “أَنتُم جَميعًا إِخوة” (متى 23، 8).
- 96. هذه الحاجة إلى تجاوز حدود الذات تنطبق أيضًا على مختلف المناطق والبلدان. في الواقع، “إن تزايد عدد الترابطات والاتّصالات التي تتشابك في كوكبنا، يبيّن بشكل ملموس وعيَ جميع دول الأرض لمصيرها المشترك. ونرى في ديناميكيات التاريخ، رغم تنوع الأعراق والمجتمعات والثقافات، كيف انتشرت الدعوة لتشكيل مجتمع يتكوّن من إخوة يرحّبون ببعضهم البعض ويهتّمون ببعضهم البعض”[75].
- 97. هناك ضواح قريبة منّا، في وسط المدينة، أو في أسرتنا نفسها. هناك أيضًا جانب لانفتاح المحبّة الشامل، ليس جغرافيّ إنما وجوديّ. وهو القدرة اليوميّة على توسيع دائرتي، للوصول إلى الذين لا أشعر بشكل تلقائي أنهم جزء من عالم اهتماماتي، حتى لو كانوا قريبين مني. من ناحية أخرى، إنّ كلّ أخت أو أخ يعاني، أو متروك، أو متجاهَل من قِبَلِ مجتمعي، هو غريب على المستوى الوجودي، حتى لو كان ابن البلد نفسه. قد يكون مواطنًا ولديه جميع الوثائق الإثباتية، لكنهم يجعلونه يشعر بأنه غريب في أرضه. العنصرية هي فيروس يتحوّل بسهولة، وبدلًا أن يختفي يتنكّر، لكنه في ترصّدٍ دائم.
- 98. أودّ أن أذكُر هؤلاء “المنفيّين المخفيّين” الذين يُعامَلون كجسم غريب في المجتمع[76]. فالعديد من الأشخاص ذوي الإعاقة يشعرون “أنهم موجودون دون انتماء ولا مشاركة”. هناك الكثير من الأمور التي ما تزال “تمنعهم من الحصول على الجنسية الكاملة”. والهدف ليس فقط الاهتمام بهم، بل “أن يشاركوا فعليًّا في المجتمع المدني والكنسي. وهذا مسار شاقّ ومُتعِب، لكنه سوف يساهم أكثر فأكثر في تكوين ضمائر قادرة على الاعتراف بكلّ شخصٍ على أنّه إنسانٍ فريد لا يتكرّر”. أفكّر كذلك في “المسنّين الذين يشعرون أحيانًا، بسبب إعاقتهم، بأنهم عبء”. ومع ذلك، يستطيع جميعهم تقديم “مساهمة فريدة للصالح العام من خلال سيرتهم الذاتية الفريدة”. أسمح لنفسي بأن أؤكّد أنّه: يجب “أن تكون لدينا الشجاعة لإعطاء صوتٍ للذين يتعرّضون للتمييز بسبب إعاقتهم، لأن للأسف في بعض الدول، وحتى اليوم، يتردّدون في الاعتراف بأنهم قد مُنِحوا الكرامة نفسها”[77].
- 99. إن المحبّة التي تمتدّ خارج الحدود هي أساس ما نسمّيه “الصداقة الاجتماعية” في كلّ مدينة أو في كلّ بلد. وهذه الصداقة الاجتماعية داخل المجتمع، عندما تكون أصيلة، تشكّل شرط إمكانيةلانفتاح شامل حقيقي. لا يتعلّق الأمر هنا بالكونيّة الخادعة التي يظهرها الذين يحتاجون للسفر باستمرار لأنهم لا يتحمّلون شعبهم أو لا يحبّونه. فكلّ من ينظر إلى شعبه نظرة احتقار، يُقيمُ في مجتمعه فئات من الدرجة الأولى أو الثانية، من أشخاص يتمتّعون بدرجات مختلفة من الكرامة والحقوق. وبهذه الطريقة ينكر أنّ هناك متّسع للجميع.
100.كما أنني لا أقترح شموليّة استبدادية ومجرّدة، أملاها البعض أو خطّط لها وعرضها على أنها مثال مزعوم هدفه التجانس والسيطرة والنهب. فهناك نموذج للعولمة “يهدف عن قصد إلى توحيدٍ أحاديّ البعد ويسعى إلى القضاء على جميع الاختلافات والتقاليد، في بحث سطحيّ عن الوحدة. […] إذا حاولت العولمة مساواة الجميع، كما لو كانوا جسمًا كرويًّا، فإن العولمة تدمّر غنى كلّ شخص وكلّ شعب وطابعه الفريد”[78]. ويقود هذا الحلمُ الشموليّ الكاذب إلى حرمان العالم من تنوّع ألوانه، وجماله، وبالتالي حرمانه أيضًا من إنسانيّته. لأن “المستقبل ليس “أحاديّ اللون“، ولكن، إذا كانت لدينا الشجاعة، فمِن الممكن أن ننظر إليه عبر تنوّعِ واختلافِ المساهمات التي يستطيع أن يقدّمها كلّ منكم. كم أنّ عائلتنا البشريّة تحتاج لأن تتعلّم العيش المشترك في وئام وسلام دون الحاجة لأن نكون جميعًا متشابهين!”[79].
101.لِنَعُد الآن إلى مَثَل السامريّ الصالح الذي لا يزال لديه الكثير ليقوله لنا. كان هناك رجل جريح في الطريق. والشخصيّات التي عبرت بقربه لم تركّز على هذه الدعوة الداخلية لإظهار قربها منه، بل ركّزوا على وظيفتهم، وعلى مكانتهم الاجتماعية، ودورهم المهمّ في المجتمع. يشعرون بعلوِّ شأنِهم في المجتمع المعاصر وما يهمّهم إنما هو الدور الذي يلعبونه فيه. وكان الرجل الجريح والمتروك على الطريق مصدر إزعاجٍ لهذا المشروع، وعرقلة، وهو من جهته شخص لا وظيفة له. كان مجرّد “نَكِرَة”، ولم يكن ينتمي إلى مجموعة لها اعتبارها، ولم يكن له دور في بناء التاريخ. بينما قاوم السامري السخيّ هذه التصنيفات المغلقة، رغم أنه هو نفسه لم يكن ينتمي إلى أيّ من هذه الفئات، وكان بكلّ بساطة غريبًا، ليس له مكانة خاصّة في المجتمع. وهكذا، وهو غير مقيّد بأيّ لقب أو هيكلية، تمكّن من تعليق رحلته، ومن تغيير مشروعه، ومن أن يكون مستعدًّا للانفتاح على “مفاجأة” الرجل الجريح الذي يحتاج إليه.
102.ما هو ردّ الفعل الذي يمكن أن تثيره هذه الرواية اليوم، في عالمٍ تظهر وتزداد فيه باستمرار مجموعات اجتماعية تتشبّث بهويّة تفصلها عن الباقي؟ كيف يمكنها أن تحرّك الذين يميلون إلى تنظيم ذواتهم بطريقة تمنع أيّ حضور أجنبي قد يزعج تلك الهوية وذاك التنظيم ذات المرجعيّة-الذاتية والدفاع-الذاتي؟ لم يعد هناك في هذا الإطار، إمكانية لأن يصبح المرء “قريبًا”، من الممكن فقط أن يكون “قريبًا” مِن الذي يضمن له مكاسبه الشخصيّة. وهكذا لم يعد لكلمة “قريب” من معنى، فكلّ المعنى يُعطى لكلمة “شريك”، أي مَن هو شريك في مصالح معينة[80].
103.إن الأخوّة ليست مجرّد نتيجة لشروط احترام الحرّيات الفرديّة، أو حتى لبعض حقوق الإنصاف المُنَظَّم. ورغم أنها عوامل تمكين، إلّا أنها ليست كافية لأن تكون الأخوّة نتيجة حتمية لها. فللأخوّة شيءٌ إيجابيّ تقدمه للحرّية والمساواة. ماذا يحدث دون أُخُوّةٍ ننمّيها بوعي، ودون إرادةٍ سياسيّة للأخوّة، تُتَرجَم بالتربية على الأخوّة، والحوار، وعلى قِيَم المعاملة بالمثل والإغناء المتبادل؟ ما يحدث إنما هو تقلّص الحرّية، فتتحوّل إلى حالةِ انعزال، واستقلاليةٍ بحتة، ينتمي فيها المرء إلى شخص ما أو شيء ما، أو يعيش لمجرّد الامتلاك والاستمتاع. إنّ هذا لا يُظهِر أبدًا كلَّ غنى الحرّية التي تهدف قبل كلّ شيء إلى المحبّة.
104.وكذلك لا يتمّ تحقيق المساواة من خلال القول إنّ “جميع البشر متساوون” بشكل مجرّد، إنما هي نتيجة للتنمية الواعية والتربوية للأخوّة. فالأشخاص الذين ليس بقدرتهم إلّا أن يكونوا شركاء وحسب، يخلقون عوالم مغلقة. وما المعنى الذي يُعطى في هذا الإطار للشخص الذي لا ينتمي إلى دائرة الشركاء، ويأتي وهو يحلم بحياة أفضل لنفسه ولأسرته؟
105.إن الفرديّة لا تجعلنا أكثر حرّية، وأكثر مساواة، وأكثر أخوّة. ومجرّد مجموع المصالح الفردية ليس قادرًا على إنشاء عالم أفضل للبشرية جمعاء. لا يمكنه حتى أن يحمينا من الشرور العديدة التي أصبحت أكثر فأكثر عالمية. لكن الفيروس الذي يصعب التغلّب عليه هو الفرديّة الجذرية. فهي مضلّلة. تجعلنا نعتقد أنّ كلّ ما يهمّ هو إطلاق العنان لطموحاتنا الخاصّة، كما لو أنّ تجميع الطموحات الفرديّة والضمانات يمكّننا من بناء الخير العام.
106.هناك شيء جوهريّ وأساسيّ علينا أن ندركه حتى نسير نحو الصداقة الاجتماعية والأخوّة الشاملة: وهو مقدار قيمة الإنسان، قيمة الشخص، على الدوام وفي أيّ ظرف كان. إذا كان كلّ شخص له قيمة عالية، فيجب القول بشكل واضح وثابت أن: “بمجرّد أن يولد أناس في مكان يتمتع بموارد أقلّ أو بتطوّر أقلّ، فهذا لا يبرّر أن يعيشوا في كرامة أقلّ”[81]. إنّ هذا المبدأ هو جوهريّ للحياة الاجتماعية، لكن غالبًا ما يتجاهله، وبطرق مختلفة، الذين يشعرون أنه لا يناسب نظرتهم للعالم أو لا يخدم أغراضهم.
107.لكلّ إنسان الحقّ في العيش بكرامة والتمتّع بتطوّر كامل، ولا تستطيع أيّة دولة أن تنكر هذا الحقّ الأساسيّ. كلّ إنسان يملك هذا الحقّ حتى لو كان قليل الفعاليّة، حتى لو ولد أو نشأ وله محدوديّته: لأن هذا لا ينتقص من كرامته العظيمة كإنسان، والتي لا تقوم على الظروف بل على قيمة كيانه. عندما لا يُحتَرم هذا المبدأ الأساسي، لا يوجد مستقبل للأخوّة ولا لبقاء البشرية.
108.هناك مجتمعات تقبل هذا المبدأ جزئيًا. تقبل بأن يكون هناك إمكانيّات للجميع، لكنها تقول إنّ كلّ شيء، انطلاقًا من هذا، يتوقّف على المرء. من هذا المنظور الجزئي، لن تكون هناك فائدة من “تكريس الذات كي يتمكّن الذين هم في المؤخرة والضعفاء والمحرومون، من شقّ طريق في الحياة”[82]. فالتكرّس لصالح الضعفاء قد لا يكون مُربِحًا، وقد يكون أقلّ كفاءة. إنه يتطلّب دولة حاضرة وناشطة، ومؤسّسات من المجتمع المدني تتخطّى حرّية الآليات الفعّالة لبعض الأنظمة الاقتصادية أو السياسية أو الإيديولوجية، لأنها موجّهة في المقام الأوّل إلى الناس والخير العام.
109.يولد البعض في عائلات ميسورة الحال، ويتلقّون تربية جيّدة، وينمون ويتغذّون بشكل جيّد، أو يمتلكون بطبيعتهم قدرات رائعة. من المؤكّد أنهم لن يحتاجوا إلى دولة ناشطة، وسيطالبون بالحرّية وحسب. ولكن من الواضح أنّ القاعدة نفسها لا تناسب الشخص المعاق، أو الشخص الذي ولد في منزل شديد الفقر، أو الشخص الذي نال تربية سيّئة، والفرص كانت ضئيلة كي يعالج أمراضه بشكل مناسب. إذا كان المجتمع يقوم في المقام الأوّل على معايير حرّية السوق وكفاءته، فلن يكون هناك مكان لهم، وستكون الأخوّة تعبيرًا رومانسيًّا على الأكثر.
110.الحقيقة هي أنّ “مجرّد التغنّي بالحريّة الاقتصادية، بينما في الواقع تمنع الأوضاع الحقيقية الكثيرين من الوصول إليها … هو خِطاب متناقض”[83]. وتَفقِد بعض الكلمات معناها مثل الحرّية والديمقراطية والأخوّة. لأنّ الحقيقة هي أنّه “طالما أنّ نظامنا الاقتصادي والاجتماعي يولّد ضحيّة واحدة، ولا يوجد سوى شخص واحد مُستَبعَد، لن نتمكّن من الاحتفال بالأخوّة الشاملة”[84]. أمّا المجتمع الإنساني والأخويّ فهو قادرٌ على الاهتمام بضمان مرافقة الجميع في حياتهم، بطريقة فعّالة ومستقرة، ليس فقط من أجل تأمين احتياجاتهم الأساسية، ولكن حتى يتمكّنوا من تقديم أفضل ما لديهم، حتى لو لم يكن أداؤهم الأفضل، ولو كانوا بطيئين، ولو لم يكونوا ذوي كفاءات باهرة.
111.إن الإنسان، بفعل حقوقه غير القابلة للتصرّف، منفتحٌ طبعًا على العلاقات. فالدعوة إلى تجاوز ذاته عبر اللقاء مع الآخرين تكمن في جذوره. ولذا، “من الضروري الانتباه حتى لا نقع في بعض الأخطاء التي قد تنجم عن سوء فهمٍ لحقوق الإنسان، وسوء استخدامها. هناك اليوم، في الواقع، ميلٌ نحو مطالبة متزايدة بالحقوق الفردية –أكاد أقول ذات نزعة فرديّة- يخفي مفهومًا للإنسان يفصله عن أيّ سياق اجتماعيّ وأنثروبولوجيّ، يشبه الجوهر الفرد، ويفتقر أكثر فأكثر للإحساس. […] إذا لم يكن هناك تناسق بين حقّ كلّ شخص والخير الأعظم، فسوف يتوصّل إلى تصوّر ذاته دون حدود تقيّده، ويصبح بالتالي مصدر صراع وعنف”[85].
112.لا يسعنا إلّا أن نقول إنّ الرغبة والسعي وراء خير الآخرين والبشرية جمعاء تعني أيضًا السعي إلى نضوج الأفراد والمجتمعات على مستوى القيم الخُلُقية المختلفة التي تقود إلى تنمية بشرية متكاملة. هناك ثمرة للروح القدس يذكرها العهد الجديد (را. غل 5، 22)، بعبارة agathosyneاليونانية. تشير هذه العبارة إلى التعلّق بالخير، السعي وراء الخير. وتعني أيضًا، إعطاء أثمن ما عندنا، إعطاء الأفضل للآخرين: نضوجهم، ونموّهم في حياة سليمة، وممارسة القيم وليس الرفاه المادّي وحسب. هناك تعبير لاتيني مشابه: bene-volentia، أي “إرادة الخير للآخر”. إنها رغبةٌ قويّة في الخير، وميلٌ نحو كلّ ما هو خيّر وممتاز، إنها ما يدفعنا إلى مَلء حياة الآخرين بأمور جميلة وسامية وملهِمة.
113.في هذا الخط، أعود فأشير بألمٍ إلى أننا “قد عرفنا حقًا التدهور الخُلُقي لمدّة طويلة، مستهزئين بالأخلاقيّات، وبالصلاح، وبالإيمان، وبالصدق، وقد حانت الساعة لندرك أنّ هذه الفرحة السطحيّة لم تخدمنا كثيرًا. إنّ هذا التدمير لكلّ أساس للحياة الاجتماعية سوف يدفع كلًّا منّا للوقوف ضدّ الآخر من أجل الدفاع عن المصالح الشخصيّة”[86]. دعونا نعود إلى تعزيز الخير، من أجل أنفسنا ومن أجل البشرية جمعاء، فنسير بالتالي معًا نحو نموّ حقيقي وشامل. فكلّ مجتمع يحتاج إلى ضمان انتقال القيم، لأنه إذا لم تُنقَل القِيم، فسوف تُنقل الأنانية والعنف والفساد بأشكاله المختلفة، واللامبالاة، وفي نهاية المطاف تُنقَل حياةٌ مغلقة أمام كلّ سموّ، ومسيّجة بالمصالح الفرديّة.
114.أريد أن أسلّط الضوء على التضامن، الذي يتطلّب، “كفضيلة خُلُقية وموقف اجتماعي، ثمرةَ الارتداد الشخصي، التزامًا من قبل أطراف متعدّدة تحمل مسؤوليّات تربويّة وتأسيسيّة. يتّجه فكري في المقام الأوّل إلى العائلات، المدعوّة إلى رسالة تربوية أوّلية وحاسمة. إنها تشكّل المكان الأوّل حيث تُمارَس وتُنقل قيم المحبّة والأخوّة والتعايش والمقاسمة والاهتمام والاعتناء بالآخر. إنها أيضا البيئة المميّزة لنقل الإيمان، بدءًا من أولَى بوادر التقوى البسيطة التي تعلّمها الأمهات لأبنائهن. وبالنسبة للمربّين والمنشّئين في المدارس ومختلف المراكز التي تجمع الأطفال والشباب، والذين لديهم واجب تربية الأطفال والشبان، فإنّهم مدعوّون لأن يُدركوا أنّ مسؤوليتهم تتعلّق بأبعاد الشخص الخُلُقية والروحية والاجتماعية. إنّ قيم الحرّية والاحترام المتبادل والتضامن يمكن نقلها منذ سنين الطفولة الأولى. […] وللعاملين في حقل الثقافة ووسائل الاتصالات الاجتماعية مسؤوليةٌ في مجال التربية والتنشئة، خصوصًا في المجتمعات المعاصرة، حيث تتسّع إمكانية الدخول إلى وسائل الإعلام والاتصالات”[87].
115.في هذه الأوقات التي يبدو كلّ شيء فيها كأنه يضعف ويفقد اتّساقه، من الجيّد لنا أن نستند على الصلابة[88] التي تنبع من معرفتنا بمسؤوليتنا تجاه ضعف الآخرين فنبحث عن مصير مشترك. يظهر التضامن بشكل ملموس في الخدمة، ويمكنه أن يتخّذ أشكالًا مختلفة تمامًا في تحمّل مسؤولية الآخرين. “فالخدمة تعني أولًا الاعتناء بالهشاشة؛ تعني الاعتناء بمن هم ضعفاء في عائلاتنا، وفي مجتمعنا وفي شعبنا”. وفي هذه المهمّة يستطيع كلّ فرد أن “يضعَ جانبًا مخاوفَه وتطلّعاته ورغباته في السلطة إزاء نظرة الضعفاء الملموسة. […] فالخدمة تنظر دائمًا إلى وجه الأخ، وتلمس جسده، وتشعر بقربه لدرجة “التألّم معه” في بعض الأحيان، وتعمل على الرفع من شأن الأخ. لذا، فالخدمة ليست أبدًا أيديولوجية، لأنها لا تخدم أفكارًا إنما أشخاصًا”[89].
116.إن الأخيرين بشكل عام “يمارسون ذلك التضامن المميّز الذي نجده بين الذين يعانون، بين الفقراء، والذي يبدو أنّ حضارتنا قد نسيته، أو على الأقلّ هي حريصة على نسيانه. كلمة التضامن لا تثير الاعجاب دائمًا، بل أقول إننا قد حوّلناها أحيانًا إلى كلمة سيئة، لا يمكن قولها؛ لكن الكلمة تعبّر أكثر بكثير من بعض الأعمال السخيّة المتقطّعة. التضامن يعني التفكير والتصرّف من منطق الجماعة، وأولويّة حياة الجميع على استملاك البعض للخيرات. ويعني أيضًا محاربة الأسباب الهيكليّة للفقر، وعدم المساواة، وغياب العمل والأرض والسكن، والحرمان من الحقوق الاجتماعية وحقوق العمل. يعني كذلك مواجهة تبعات إمبراطورية المال المدمِّرة. […] التضامن، الذي يُفهم بمعناه العميق، هو طريقة لصنع التاريخ، وهذا ما تفعله الحركات الشعبية”[90].
117.عندما نتحدّث عن رعاية البيت المشترك الذي هو الكوكب، إنما نستند إلى الحدّ الأدنى من الوعي العالمي ومن الاهتمام بالرعاية المتبادلة الذي ما زال موجودًا لدى الأشخاص. لأنه إذا كان أحدُهم يملكُ الماءَ بوفرة، ومع ذلك يهتمّ به مفكّرًا في الإنسانية، فذلك لأنه توصّل إلى مستوى خُلُقيٍّ راقٍ يسمح له بتخطّي ذاته وجماعته. هذا تصرّف إنسانيّ رائع! هذا الموقف بالذات هو المطلوب في سبيل الاعتراف بحقوق جميع البشر، حتى لو ولدوا خارج حدودهم.
إعادة اقتراح الدور الاجتماعي للملكيّة
118.لقد وجِدَ العالمَ من أجل الجميع، لأننا جميعًا، نحن البشر، نولد على هذه الأرض بالكرامة نفسها. إنّ الاختلافات في اللون والدين والقدرات ومكان الولادة ومكان الإقامة وغيرها الكثير، لا يمكن أن تتعارض أو تُستَخدم من أجل تبرير امتيازات البعض على حساب حقوق الجميع. لذلك، علينا كمجتمع، أن نلتزم بضمان وصول كلّ شخص لأن يعيش بكرامة وحصوله على فرص كافية لتنمية متكاملة.
119.طوّر العديدُ من الحكماء، في القرون الأولى للإيمان المسيحي، حسًّا عالميًّا في تأمّلهم حول قَدَر خيرات الخليقة أن تكون مُشتَرَكة[91]. وقاد هذا إلى التفكير إلى أنه إذا لم يكن لدى المرء ما يكفي للعيش بكرامة، فذلك لأن شخصًا آخر يحتفظ به. يلخّصه القدّيس يوحنا الذهبي الفم بقوله “إن عدم مشاركة الخيرات الخاصّة مع الفقراء يعني سرقتهم وحرمانهم من حياتهم. فالخيرات التي لدينا ليست ملكنا، إنما ملكهم”[92]. أو فضلًا عن كلمات القدّيس غريغوريوس الكبير هذه: “عندما نعطي الفقراء أيّ شيء كان، فإننا لا نعطيهم أشياءَنا، بل نعيد لهم ما هو ملكهم”[93].
120.أتبنّى من جديد بعض كلمات للقدّيس يوحنا بولس الثاني وأقترحها على الجميع، لربما لم تُفهَم قوّتها: “قد وهب اللّه الأرض لجميع أبناء البشر لتُعيلهم كلّهم، بدون استثناء لأحد”[94]. في هذا الصدد، أذكّر أنّ “التقليد المسيحيّ لم يَعتَبِر أبدًا الحقَّ بالملكيّة الخاصّة أمرًا مطلقًا أو غير قابل للتغيير، وقد سلّط الضوء على الدَورِ الاجتماعيّ لأيّ شكل من أشكال الملكيّة الخاصّة”[95]. إنّ مبدأ الاستخدام المشترك للخيرات التي خُلِقَت للجميع هو “المبدأ الأوّل للنظام الأخلاقي والاجتماعي بكامله”[96]، وهو حقّ طبيعي وأصيل وذو أولوية[97]. أمّا جميع الحقوق الأخرى التي تتعلّق بالخيرات اللازمة لتحقيق الإدماج الكامل للأشخاص، بما في ذلك الملكيّة الخاصّة وأيّ حقوق أخرى، “فيجب ألاّ تعيق تحقيقه بل تسهّله” كما أكّده القدّيس بولس السادس[98]. لا يمكن النظر إلى الحقّ في الملكيّة الخاصّة إلّا كحقّ طبيعيّ ثانوي ومشتقّ من مبدأ كون الخيرات المخلوقة قد قُدِّرَت لينعم بها العالم بأسره، وله عواقب ملموسة للغاية يجب أن تنعكس في سير عمل المجتمع. ولكن غالبًا ما تتداخل الحقوق الثانوية مع الأولوية والأصلية، فتغدو دون أيّ فائدة عملية.
121.لذلك لا يمكن استبعاد أحد بسبب مكان ولادته، أو بدافع الامتيازات التي يتمتّع بها آخرون لكونهم ولدوا في أماكن ذات إمكانيّات أكبر. لا تستطيع حدود الدول أن تمنع تحقيق ذلك. وكما أنه من غير المقبول أن يتمتّع شخص بحقوق أقلّ لكونه امرأة، كذلك من غير المقبول أن يُحِدَّ مكانُ الولادة أو الإقامة في حدّ ذاته مٍن فرص حياة كريمة ونموّ.
122.يجب ألّا يكون هدف التنمية هو التراكم المتزايد لثروات الأقلّية، بل يجب أن تضمن “الحقوق الإنسانية، الفردية والاجتماعية، والاقتصادية والسياسية، بما فيها حقوق الأمم والشعوب”[99]. لا يمكن أن يتجاوز حقُّ البعضِ في حريّة إقامة المؤسّسات أو السوق، حقوقَ الشعوبِ وكرامة الفقراء، ولا احترامَ البيئة لأن “مَنْ يمتلك جزءًا منها فهو فقط لإدارته لصالح الجميع”[100].
123.صحيح أنّ نشاط رجال الأعمال هو “دعوة نبيلة تهدف لإنتاج الغنى وتحسين العالم من أجل الجميع”[101]. الله يساندنا، وينتَظِر منّا أن نطوّر القدرات التي أعطانا إياها، وقد ملأ الكون بالإمكانيات. وكلّ شخص، في تدبير الله، هو مدعوّ لتعزيز تنميته الشخصيّة[102]، وهذا يشمل تنمية القدرات الاقتصادية والتكنولوجية في سبيل تنمية الخيرات وزيادة الغنى. ولكن وبأيّ حال، إنّ قدرات أصحاب العمل هذه، التي هي هبة من الله، يجب أن تهدف بشكل واضح إلى تنمية الآخرين والتغلّب على البؤس، خاصّة من خلال خلق فرص عمل متنوّعة. فهناك دومًا، إلى جانب حقّ الملكيّة الخاصّة، الحقّ الأهمّ والأسبق الذي يُخضِع جميع الممتلكات الخاصّة لمبدأ كون خيرات الأرض قد قُدّرَت لينعم بها العالم بأسره، وبناءً عليه، هناك حقّ للجميع في استخدامها[103].
124.إن الاقتناع اليوم بكونِ خيرات الأرض قد قُدِّرَت لتكون مُشترَكة يتطلّب أن ينطبق أيضًا على البلدان وأراضيها ومواردها. إذا نظرنا إليه، ليس فقط انطلاقًا من شرعية الملكية الخاصّة وحقوق مواطني دولة معيّنة، إنما أيضًا من المبدأ الأوّل لكون الخيرات قد قُدِّرَت لتكون مُشترَكة، فيمكننا القول إنّ كلّ بلد هو بلد الشخص الأجنبي أيضًا، إذ لا يجوز حرمان شخص محتاج يأتي من مكان آخر من خيرات الأرض. لأنه، كما علّم أساقفة الولايات المتحدة، هناك حقوق أساسية “تسبق أيّ مجتمع لأنها تنبع من الكرامة الممنوحة لكلّ شخص خلقه الله”[104].
125.ويفترض هذا أيضًا طريقة أخرى لفهم العلاقات والتبادل بين البلدان. إذا كان لكلّ شخص كرامة غير قابلة تصرّف، وإذا كان كلّ إنسان أخًا أو أختًا لي، وإذا كان العالم في الواقع مُلكًا للجميع، فلا يهمّ إذا وُلد الشخص هنا أو يعيش خارج حدود بلده. فبلدي يشارك أيضًا في مسؤوليّة تنميته، حتى وإن كان يستطيع أن يفي بهذه المسؤولية بطرق مختلفة: يقدّم له الضيافة بسخاء عندما يكون بحاجة ماسّة إليها، أو يساعده في أرضه، أو يمتنع عن استخدام أو إفراغ الموارد الطبيعية لبلدان بأكملها من خلال تعزيز النظم الفاسدة التي تعوق التنمية الكريمة للشعوب. هذا الأمر الذي ينطبق على الدول، ينطبق أيضًا على مختلف المناطق في البلدان، والتي غالبًا ما تشهد حالات مفرطة من عدم المساواة. لكن عدم القدرة على الاعتراف بالكرامة الإنسانية المتساوية يقود أحيانًا إلى أن تحلم المناطقُ الأكثر تقدّمًا في بعض البلدان بالتحرّرِ من “عبء” المناطق الأكثر فقراً في سبيل زيادة مستوى استهلاكها.
126.نتحدّث عن شبكة جديدة في العلاقات الدولية، لأننا لن نجد طريقة لحلّ المشاكل الخطيرة في العالم إذا اكتفينا بالتفكير من حيث المساعدة المتبادلة بين الأفراد أو المجموعات الصغيرة. نذكّر أنّ “عدم المساواة لا يصيب الأفراد فقط، وإنما بلدان بأكملها، ويفرض التفكير في أخلاقيّات العلاقات الدوليّة”[105]. وتتطلّب العدالة بأن نعترف ونحترم ليس فقط حقوق الأفراد لكن أيضًا الحقوق الاجتماعية وحقوق الشعوب[106]. إنّ ما نقوله يعني ضمان “الحقّ الأساسي للشعوب في العيش والتقدّم”[107]، والذي يعوقه أحيانًا بشدّة الضغطُ الناجم عن الديون الخارجية. إنّ سداد الدين، في كثير من الحالات، لا يعرقل التنمية فحسب، بل يحدّها ويقيّدها بشدّة. رغم ضرورة الحفاظ على مبدأ وجوب سداد جميع الديون التي تمّ التعاقد عليها بشكل شرعي، فإنّ طريقة وفاء هذا الواجب الذي يدين به العديد من البلدان الفقيرة تجاه دول غنية، يجب ألّا يهدّد مصدرَ رزقها ونموّها.
127.وهذا بلا شك منطقٌ آخر. إذا لم نحاول الدخول في هذا المنطق، فستبدو كلماتي كأنها أوهام. ولكن إذا قبلنا المبدأ العظيم، أي مبدأ الحقوق التي تنبثق من مجرّد امتلاك الكرامة الإنسانية غير القابلة للتصرّف، فمن الممكن قبول التحدّي: بأن نحلم ونفكّر في إنسانية أخرى. من الممكن التوق إلى كوكب يؤمِّن للجميع الأرضَ والمسكنَ والعمل. هذا هو الطريق الحقيقي للسلام، وليس الاستراتيجية الفارغة وقصيرة النظر التي تبثّ الخوف وعدم الثقة إزاء التهديدات الخارجية. لأن السلام الحقيقي والدائم هو ممكن فقط “من خلال أخلاقيّات عالميّة تتحلّى بالتضامن والتعاون في خدمة مستقبل يرتكز على الاعتماد المتبادل والمسؤولية المشتركة في الأسرة البشرية بأكملها”[108].
128.إذا كان التأكيد على أن جميع البشر هم إخوة وأخوات ليس مفهومًا مجرّدًا وحسب، بل يتجسّد ويصبح ملموسًا، فإنه يقدّم لنا سلسلة من التحدّيات التي تهزّنا، وتجبرنا على تبنّي وجهات نظر جديدة وتطوير ردود فعل جديدة.
129.عندما يكون القريب شخصًا مهاجرًا، تزداد التحدّيات المعقّدة[109]. صحيح أنّ الأفضل هو تجنّب الهجرات غير الضرورية، ولذا فالسبيل هو خلق إمكانية ملموسة للعيش والنموّ بكرامة في بلدان المنشأ، بحيث تتواجد فيها كلّ الشروط من أجل تنمية متكاملة للإنسان. ولكن طالما أنه لا يوجد تقدّم جادّ في هذا الصدد، فيجب علينا احترام حقّ كلّ إنسان في إيجاد مكان حيث لا يمكنه فقط تلبية احتياجاته الأساسيّة واحتياجات عائلته إنما أيضًا تحقيق ذاته بالكامل كشخص. يمكن تلخيص جهودنا تجاه المهاجرين القادمين في أربعة أفعال: استقبال وحماية وتعزيز ودمج. لأن “الأمر لا يتعلّق بإنزال برامج رعاية اجتماعية من العلى، بل القيام معًا بمسيرة من خلال هذه الافعال الأربعة، لبناء مدن ودول تكون، مع الحفاظ على هوياتها الثقافية والدينية، منفتحة على الاختلافات وقادرة على تقييمها باسم الأخوّة الإنسانية”[110].
130.إن هذا يعني ضرورة التفاعل، ولا سيما تجاه الذين هربوا من أزمات إنسانية خطيرة. على سبيل المثال: زيادة وتسهيل عملية منح التأشيرات، واعتماد برامج دعم خاصّة وجماعيّة، وفتح ممرّات إنسانية للاجئين الأكثر ضعفًا، وتوفير سكن ملائم ولائق، وضمان السلامة الشخصية والحصول على الخدمات الأساسيّة، وضمان مساعدة قنصلية مناسبة، والحقّ في الاحتفاظ دومًا بوثائق الهوية الشخصية، وحصول مُنصِف على العدالة، وإمكانية فتح حسابات مصرفية وضمان الأمور الأساسية للعيش، ومنحهم حرّية التنقّل وإمكانيّة العمل، حماية القُصّر وضمان حصولهم المنتظم على التعليم، وتوفير برامج حضانة مؤقّتة أو ضيافة، وضمان الحرّية الدينية، وتعزيز اندماجهم الاجتماعي، ولمّ شمل الأسرة وإعداد الجماعات المحلّية لعمليّات الادماج[111].
131.أمّا بالنسبة للذين وصلوا منذ فترة طويلة وينتمون إلى النسيج الاجتماعي، فمن المهمّ تطبيق مفهوم «المواطنة»، الذي “يقومُ على المُساواةِ في الواجباتِ والحُقوقِ التي يَنعَمُ في ظِلالِها الجميعُ بالعدلِ؛ لذا يَجِبُ العملُ على ترسيخِ مفهومِ المواطنةِ الكاملةِ في مُجتَمَعاتِنا، والتخلِّي عن الاستخدام الإقصائيِّ لمصطلح «الأقليَّاتِ» الذي يَحمِلُ في طيَّاتِه الإحساسَ بالعُزْلَةِ والدُّونيَّة، ويُمهِّدُ لِبُذُورِ الفِتَنِ والشِّقاقِ، ويُصادِرُ على استحقاقاتِ وحُقُوقِ بعض المُواطِنين الدِّينيَّةِ والمَدَنيَّةِ، ويُؤدِّي إلى مُمارسةِ التمييز ضِدَّهُم”[112].
132.إضافة إلى مختلف الإجراءات الضرورية، لا يمكن للدول أن تضع حلولًا مناسبة بمفردها “لأن نتائج اختيار كلّ بلد تقع، بالضرورة، على كلّ المجتمع الدولي”. لذلك، فلا “يمكن للردّ أن يأتي إلّا كثمرة للعمل المشترك”[113]، ووضع تشريع (حوكمة governance) عالميّ للهجرة. على أيّ حال، يجب “وضع مشاريع على المدى المتوسّط والبعيد، تتخطّى التجاوب مع الحالات الطارئة. على هذه المشاريع أن تساعد على دمج المهاجرين في البلدان المضيفة من جهة، وتعزيز التنمية في بلدان المنشأ من جهة أخرى، عن طريق سياسات تضامنية، لا تُخضِع المساعدات إلى استراتيجيّات وممارسات غريبة أو متضاربة أيديولوجيًا مع ثقافة الشعوب التي توجَّه لها”[114].
133.إن مجيء أشخاص مختلفين، آتين من سياق حيويّ وثقافيّ مختلف، يتحوّل إلى هبة، لأن “قصص المهاجرين هي أيضًا قصص لقاء بين أفراد وبين ثقافات: فالمهاجرون يشكّلون، بالنسبة للجماعات والمجتمعات التي يأتون إليها، فرصة للإثراء والتنمية البشرية المتكاملة للجميع”[115]. لهذا السبب، “أحثّ الشبيبة بصفة خاصّة، على عدم الوقوع في مصايد الذين يريدون وضعهم في مواجهة مع شبيبة آخرين وصَلُوا حديثًا إلى بلدانهم، ويشجّعونهم على أن يروا فيهم تهديدًا لهم، كأنهم لا يتمتّعون بنفس الكرامة غير القابلة للتصرّف التي يتمتّع بها كلّ إنسان”[116].
134.من ناحية أخرى، عندما نقدّم للآخر المختلف عنّا ضيافة قلبية، فإننا نسمح له بالاستمرار في كونه هو نفسه، ونمنحه في الوقت ذاته إمكانية تطوّر جديد. من الواجب أن نحافظ على الثقافات المتنوّعة، التي طوّرت غناها على مرّ القرون، حتى لا نُفقِر هذا العالم. ونستمرّ في الوقت ذاته في تحفيزهم على أن يعطوا من ذواتهم كلَّ جديد نتيجة لقائهم بحقائق أخرى. لا يمكن تجاهل خطر وقوعهم ضحيّة التصلّب الثقافي. لهذا، فنحن “بحاجة إلى التواصل، واكتشاف غنى كلّ شخص، وتقييم ما يوحّدنا، والنظر إلى الاختلافات كإمكانية للنموّ في إطار احترام الجميع. من الضروري أن يُقام حوار صبور وواثق، كي يتمكّن الأشخاص والعائلات والجماعات من نقل قيم ثقافتهم الخاصّة وقبول الخير الصادر عن خبرات الآخرين”[117].
135.أسترجع أمثلة ذكرتها منذ فترة: الثقافة اللاتينية هي “خميرة قيمٍ وإمكانيّات تستطيع أن تفيد بشكل كبير الولايات المتّحدة. […] فالهجرة القويّة تتوصّل دائمًا لأن تترك آثارها في ثقافة المكان وتحوّله. في الأرجنتين، تركت الهجرة الإيطاليّة القويّة بصماتها في ثقافة المجتمع، كما وأنّ وجود حوالي مِئَتَي ألف يهودي يظهر بشكل واضح في النمط الثقافي في بوينس آيرس. إنّ المهاجرين، إذا ساعدناهم على الاندماج، إنما هم نعمة، وغنى، وهبة جديدة تدعو المجتمع إلى النموّ”[118].
136.مع فضيلة الإمام الأكبر، شيخ الأزهر الشريف، الدكتور أحمد الطيب، وسّعنا أفق نظرنا، وذكّرنا “أنَّ العلاقةَ بينَ الشَّرْقِ والغَرْبِ هي ضَرُورةٌ قُصوَى لكِلَيْهما، لا يُمكِنُ الاستعاضةُ عنها أو تَجاهُلُها، ليَغتَنِيَ كلاهما من الحَضارةِ الأُخرى عَبْرَ التَّبادُلِ وحوارِ الثقافاتِ؛ فبإمكانِ الغَرْبِ أن يَجِدَ في حَضارةِ الشرقِ ما يُعالِجُ به بعضَ أمراضِه الرُّوحيَّةِ والدِّينيَّةِ التي نتَجَتْ عن طُغيانِ الجانبِ الماديِّ، كما بإمكانِ الشرق أن يَجِدَ في حضارةِ الغربِ كثيرًا ممَّا يُساعِدُ على انتِشالِه من حالاتِ الضعفِ والفُرقةِ والصِّراعِ والتَّراجُعِ العلميِّ والتقنيِّ والثقافيِّ. ومن المهمِّ التأكيدُ على ضَرُورةِ الانتباهِ للفَوَارقِ الدِّينيَّةِ والثقافيَّةِ والتاريخيَّةِ التي تَدخُلُ عُنْصرًا أساسيًّا في تكوينِ شخصيَّةِ الإنسانِ الشرقيِّ، وثقافتِه وحضارتِه، والتأكيدُ على أهميَّةِ العمَلِ على تَرسِيخِ الحقوقِ الإنسانيَّةِ العامَّةِ المُشترَكةِ، بما يُسهِمُ في ضَمانِ حياةٍ كريمةٍ لجميعِ البَشَرِ في الشَّرْقِ والغَرْبِ بعيدًا عن سياسةِ الكَيْلِ بمِكيالَيْنِ”[119].
137.إن المساعدة المتبادلة بين الدول تعود بالفائدة على الجميع في النهاية. والبلد الذي يتقدّم انطلاقًا من ركيزته الثقافية الأصلية، هو كنز للبشرية جمعاء. يجب علينا أن ننمّي الوعي بأننا اليوم إمّا أن نخلص جميعًا أو لا يخلص أحد. فالفقر، والتدهور، والمعاناة التي تطال مكان ما على وجه الأرض، هي مهدٌ خصب صامت للمشاكل التي ستؤثّر في النهاية على الكوكب بأكمله. وإذا كنّا قلقين بشأن اختفاء بعض أنواع المخلوقات، فيجب أن نكون مهووسين بوجود أشخاص وشعوب، في كلّ مكان، لا ينمّون إمكاناتهم وجمالهم بسبب الفقر أو بداع قيود هيكليّة أخرى. لأن هذا سوف يفقرنا جميعًا.
138.وإذا كان هذا صحيحًا، فقد بُرهِن اليوم أكثر من أيّ وقت مضى، نظرًا لواقعِ عالمٍ مرتبط جدًا بفعل العولمة. إننا بحاجة إلى نظام قضائيّ وسياسيّ واقتصاديّ عالميّ “يُسهِمُ في زيادةِ التعاونِ الدولي وتوجيهِهِ نحوَ تنميةٍ تضامنيةٍ لجميعِ الشعوب”[120]. وهذا سيعود بالفائدة على الكوكب بأسره في نهاية المطاف، لأن “المساعداتِ لتنميةِ الدولِ الفقيرةِ” تعني “اكتساب الثروةِ للجميع”[121]. ومن وجهة نظر التنمية المتكاملة، فهذا يعني “إعطاء الدوَلِ الأشدِّ فقرًا دورًا فعّالًا في اتّخاذِ القراراتِ المشتركة”[122] وبذل الجهود “لتشجيع وصول البلدان التي تتّسم بالفقر والتخلّف، إلى السوق الدولية”[123].
139.ومع ذلك، لا أريد أن يقتصر هذا البحث على شكل من أشكال النفعيّة. فالمجّانية موجودة. إنها القدرة على القيام ببعض الأشياء لأنها صالحة بحدّ ذاتها، دون أن نتوقّع منها أيّ نتائج، دون أن ننتظر شيئًا في المقابل على الفور. هذا يسمح بأن نرحّب بالغريب، حتى لو أنّ ذلك لا يعود بفائدة ملموسة في الوقت الحالي. ولكن هناك دول تسعى لاستقبال العلماء أو المستثمرين فقط.
140.كلّ شخص لا يعيش المجّانية الأخويّة، يحوّل حياته إلى تجارة منهمكة، يقيس باستمرار ما يعطيه للآخرين وما يناله بالمقابل. أمّا الله، فيعطي مجّانًا، حتى أنه يساعد غيرَ المؤمنين، و “يُطلِعُ شَمْسَه على الأَشرارِ والأَخيار” (متى 5، 45). ولذا يعطي يسوع هذه الوصيّة: “إِذا تصَدَّقْتَ، فلا تَعلَمْ شِمالُكَ ما تَفعَلُ يَمينُكَ، لِتكونَ صَدَقَتُكَ في الخُفْيَة” (متى 6، 3- 4). لقد نلنا الحياة مجانًا، ولم ندفع ثمنها. لذلك يمكننا جميعًا أن نعطي دون أن ننتظر شيئًا، وأن نفعل الخير دون أن نطالب بشيء الشخصَ الذي ساعدناه. هذا ما قاله يسوع لتلاميذه: “أَخَذتُم مَجَّاناً فَمَجَّاناً أَعطوا” (متى 10، 8).
141.إنّ الجودة الحقيقية التي تميّز مختلف دول العالم تُقاس من خلال هذه القدرة على التفكير ليس فقط باعتبارها دولة، إنما أيضًا باعتبارها عائلة بشريّة، وهذا يُبرهَن بشكل خاصّ في الأوقات العصيبة. وتُظهِر القوميّات المغلقة في نهاية المطاف عدمَ قدرتها على عيش المجّانية، ويبان خطأ اعتقادها بأنها تستطيع التطوّر على هامش خراب الآخرين، وأنها، بانغلاقها على البقية، سوف تنعم بحماية أكبر. يُنظر إلى المهاجر كأنه طاغٍ، ليس لديه ما يقدّمه. وهكذا، يتصوّر المرء بسذاجة أنّ الفقراء خطيرون أو عديمو الفائدة وأن الأقوياء هم مِن المحسنين الأسخياء. وحدها الثقافة الاجتماعية والسياسية التي تتضمّن استضافة مجانيّة يمكن أن يكون لها مستقبل.
142.يجب أن نذكّر أنّ “هناك توتّر بين العولمة والمحلّية. من الضروري التنبّه للبعد العالمي حتى لا نقع في تفاهات يوميّة. وفي الوقت نفسه، يجب ألّا نغفل عمّا هو محلّي، وما يجعلنا نسير بواقعية. فإذا اتّحد هذان الأمران، منعانا من الوقوع في أحد هذين النقيضين: الأوّل، أن المواطنين يعيشون في شمولية مجرّدة تقود إلى العولمة […]؛ والآخر، أن يتحوّل المواطنون إلى متحفٍ فولكلوري لنسّاك حبساء، قُضيَ عليهم بأن يردّدوا دومًا الأشياء نفسها، عاجزون عن أن يعنيهم ما هو مختلف وأن يقدّروا الجمال الذي يفيضه الله خارج حدودهم”[124]. ينبغي النظر إلى ما هو عالمي، إلى الذي ينقذنا من صِغَر النزعة المحلّية. فعندما يتحوّل المنزل من أسرة إلى سور، أو زنزانة، فإن العالم ينقذُنا لأنه مثل السبب النهائي الذي يجذبنا نحو الملء. في الوقت ذاته، علينا أن نتولّى أمر البعد المحلّي بودّية، لأنه يحتوي على شيء لا تمتلكه الشمولية: أن نكون خميرة، وأن نثري الآخرين، وأن نضع آليّات لمبدأ الإمدادية (Subsidiarité). لذلك، فإن الأخُوّة الشاملة والصداقة الاجتماعية داخل كلّ مجتمع، هما قطبان لا ينفصلان ويشتركان في الجوهر. أمّا فصلهما فيؤدّي إلى تشويه وإلى استقطابٍ مؤذ.
143.إن الحلّ لا يكمن في انفتاحٍ يتنازل عن الغنى الذاتي. فكما أنه لا يوجد حوار مع الآخر بدون هويّة شخصيّة، كذلك لا يوجد انفتاح بين الشعوب إلّا انطلاقًا من حبّ الأرض، والشعب، وخصائصهم الثقافية. أنا لا ألتقي بالآخر إذا لم يكن لدي ركيزة أثبت عليها وأتجذّر فيها، لأنه من هذه الركيزة يمكنني قبول هبة الآخر وتقديم شيء حقيقي له. يمكنني أن أرحّب بالشخص المختلف وأدرك إسهامه الأصيل إذا كنت مترسّخًا في شعبي وفي ثقافته. كلّ شخص يحبّ أرضه ويعتني بها بمسؤولية خاصّة ويهتّم لشؤون وطنه، تمامًا كما يجب أن يحبّ كلّ شخص منزله ويعتني به حتى لا ينهار، لأن “الجيران” لن يفعلوا ذلك. كذلك يتطلّب خير الكون أن يحمي كلّ شخص أرضه ويحبّها. وإلّا، فإن عواقب كارثة بلد ما سوف تطال في نهاية المطاف الكوكبَ بأكمله. وهذا يستند إلى المعنى الإيجابي لحقوق الملكية: أنا أحافظ على شيء أملكه وأنمّيه، بحيث يستطيع أن يكون مساهمة في خير الجميع.
144.علاوة على ذلك، إن هذا افتراضٌ مُسبَق للتبادل السليم والمُغنِي. لأن خلفيّة تجربة الحياة في مكان مُعَّين وثقافة محدّدة هي ما يمكّن شخصًا ما من إدراك جوانب الواقع التي لا يستطيع الذين ليس لديهم هذه الخبرة إدراكها بسهولة. فما هو عالميّ لا ينبغي أن يكون سيطرةَ شكل ثقافيّ واحد، متجانس ومتشابه في الشكل والمعايير، والذي سيفقد في النهاية ألوان التعدّدية ويصبح مملًّا. إنها التجربة التي تظهر في رواية برج بابل القديمة: بَنَوا برجًا وصَلَ إلى السماء، لم يعبّر عن الوَحدة بين مختلف الشعوب القادرة على التواصل انطلاقًا من تنوّعها. بل كانت محاولة مضلّلة، نابعة من كبرياء الإنسان وطموحه بخلق وَحدة مختلفة عن الوَحدة التي أرادها الله للأمم في تدبيره الإلهي (را. تك 11، 1- 11).
145.هناك انفتاح كاذب على ما هو شامل، ينبع من السطحيّة الفارغة لدى الشخص غير القادر على التوغّل بعمق في وطنه، أو الذي يحمل في قلبه استياءً من شعبه لم يتحرّر منه بعد. على أيّ حال، «يجب توسيع أفق النظر على الدوام للتعرّف على خيرٍ أعظم يعود بالمنفعة على الجميع. لكن يجب أن يتمّ ذلك دون هروب ولا اقتلاع الجذور. من الضروري أن نعزّز جذورنا في الأرض الخصبة وفي تاريخ المكان الخاصّ الذي هو عطيّة من الله. ونعمل على صعيد صغير، مع ما هو قريب، ولكن من منظور أوسع. […] فلا هو المجال العالمي الذي يبطل الشخصَ ولا الجزئية المنعزلة التي تُعْقِمُه”[125]، إنه المجتمع المتعدّد الوجوه، حيث “الكلّ أكثر من الجزء، وأكثر أيضًا من مجموع تلك الأجزاء”[126]، وحيث يُحتَرَم كلّ واحد في قيمته.
146.هناك نرجسيّة ذات نزعة محلّية لا تعبّر عن حبّ سليم للشعب ولثقافته. تكُنُّ روحًا منغلقة تعطي الأفضلية لإنشاء جدران دفاعية بهدف الحفاظ على ذاتها، بسبب عدم الأمان والخوف من الآخر. لكن من غير الممكن أن تكون “محلّية” بشكل سليم دون انفتاح صادق وودود على العالم، دون الاهتمام بما يحدث في أجزاء أخرى من العالم، دون أن تثريها ثقافات أخرى أو بدون أن تتضامن مع مآسي الشعوب الأخرى. هذه النزعة المحلّية تنغلق بهوس حول بعض الأفكار والعادات والضمانات، وهي غير قادرة على إبداء الإعجاب إزاء العديد من الإمكانيّات والجمال التي يقدّمها العالم كلّه، وتفتقر إلى التضامن الأصيل والسخيّ. وبالتالي، لم تعد تتّسم الحياة المحلّية بتقبّلٍ أصيل، ولا تسمح للآخر بأن يكمّلها؛ لذلك، فإنها تحدّ من إمكانيات تنميتها، وتصبح جامدة وتَسقَم. لأن كلّ ثقافة سليمة في الواقع هي منفتحة ومُرَحِّبة بطبيعتها، بحيث أن كلّ “ثقافة بلا قيم شاملة، ليست ثقافة حقيقية”[127].
147.نلاحظ أنه كلّما قلّت السعة لدى المرء في عقله وفي قلبه، كلّما قَلَّت قدرتُه على تفسير الواقع القريب حيث هو منغمس. فمن الصعب أن يدرك ذاته وأرضه بشكل واضح وكامل، في غياب علاقة وتباين مع شخص مختلف، لأن الثقافات الأخرى ليست عدوّة علينا أن نحمي ذاتنا منها، إنما هي انعكاسات مختلفة لغنى الحياة البشرية الذي لا ينضب. إذا نظر كلّ منّا إلى ذاته عبر النقطة المرجعية للآخر، للمختلف، يمكنه أن يدرك بشكل أفضل خصوصيّات شخصه وثقافته: غناه وإمكانيّاته ومحدوديّته. الاختبار الذي يعيشه أشخاصٌ في مكان ما يجب أن يتطوّر “بمواجهة” و “بتناغم” مع تجارب الآخرين الذين يعيشون في سياقات ثقافية مختلفة[128].
148.الانفتاح السليم في الواقع، لا يهدّد الهوية أبدًا. لأن الثقافة الحيّة، حين تُضيف إلى غناها عناصر من أماكن أخرى، فهي لا تقوم بنسخها أو تكرّرها ببساطة، بل تضمّ الجديد إلى “أسلوبها الخاصّ”. وهذا يؤدّي إلى ولادة تركيبة جديدة تعود بالفائدة على الجميع في النهاية، لأن الثقافة التي نشأت فيها هذه المساهمات، تتوصّل لأن تتغذّى بدورها. لهذا السبب، ناشَدتُ الشعوب الأصلية للاهتمام بجذورها وثقافات أسلافها، لكنني أردت أن أوضّح أنه لم يكن “في نيّتي أن أقترح على السكّان الأصليّين تعلّقًا بالهوية مغلقًا بالكامل، خارجًا عن أيّ اعتبار تاريخي، صارمًا، يرفض أيّ نوع من أنواع التمازج”، نظرًا لأن “الهوية الثقافية نفسها تتعمّق وتغتنى بالحوار مع الآخر المختلف، والحفاظ الأصيل عليها ليس عزلة تُفقِر”[129]. ينمو العالم ويمتلئ بجمال جديد بفضل الاختلاطات المتتالية التي تحدث بين الثقافات المنفتحة، خارج أي فرض لأيّ ثقافة.
149.من أجل تحفيز علاقة سليمة بين حبّ الوطن والاندماج الودّي في البشرية جمعاء، من الجيّد أن نتذكّر أن المجتمع العالمي ليس نتيجة مجموع البلدان المختلفة، بل هو الشركة نفسها القائمة بينهم، إنه الإدماج المتبادل الذي يسبق ظهور أيّ مجموعة معيّنة. وداخل هذا الترابط الذي تولّده الشركة الشاملة، تندمج كلّ مجموعة بشرية وتجد جمالها فيه. بالتالي، إن كلّ شخص يولد في سياق معيّن يعرف أنه ينتمي إلى عائلة كبرى لا يمكن أن يفهم نفسه بالكامل بدونها.
150.باختصار، إن هذه المقاربة تدعو إلى أن نقبل بفرح أنه ليس باستطاعة أيّ شعب أو ثقافة أو شخص الحصول على كلّ شيء من ذاته. الآخرون هم ضروريون بشكل أساسيّ لبناء حياة كاملة. أمّا إدراكنا بمحدوديّتنا وجزئيّتنا، الذي لا يشكّل أبدًا تهديدًا لنا، فيصبح المفتاح الذي من خلاله نحلم ونطوّر مشروعًا مشتركًا. لأن “الإنسان هو الكائن-المحدود الذي ليس له حدود”[130].
151.بفضل التبادل الإقليمي، الذي منه تنفتح أضعف الدول على العالم بأسره، من الممكن ألّا تُضعِف الشموليةُ الخصوصيّات. فالانفتاح المناسب والأصلي على العالم، يفترض القدرة على الانفتاح على “الجار” في أسرة الأمم. وهذا الاندماج الثقافي والاقتصادي والسياسي مع البلدان المجاورة، يجب أن ترافقه عمليةٌ تربويةٌ تعزّز قيمة محبّة القريب، وهو التمرين الأساسيّ الأوّل في سبيل تحقيق اندماج عالميّ سليم.
152.في بعض الأحياء الشعبية، لا زالت تُعاش روحُ “الحيّ”، حيث يشعر كلّ واحد بشكل عفويّ بواجب مرافقة ومساعدة الجار. في هذه الأماكن التي تحافِظ على هذه القيم الجماعيّة، تُبنى العلاقات مع الجار بمجّانيةٍ، وتضامنٍ ومبادلة، انطلاقًا من إحساسٍ يَجمَع الحيَّ بنوع من “نحن”[131]. عسى أن يُعاش ذلك أيضًا بين البلدان المجاورة، فتَستطيع بناء تقارب ودّي بين شعوبها. لكن الرؤى ذوات النزعة الفرديّة تُتَرجَم في علاقات بين البلدان. الخطرُ هو أن ننقل إلى علاقاتنا مع شعوب المنطقة ما نعيشه ونحن نحمي أنفسنا من بعضنا البعض وننظر إلى الآخرين على أنهم منافسين أو أعداء خطرين. ربّما نشأنا في هذا الخوف وفي انعدام الثقة.
153.هناك دول قويّة وشركات كبيرة تستفيد من هذه العزلة وتفضّل التفاوض مع كلّ دولة على حدة. وعلى العكس من ذلك، بالنسبة للبلدان الصغيرة أو الفقيرة، تنفتح إمكانيّة التوصّل إلى اتّفاقيات إقليمية مع جيرانها، مما يتيح لها الفرصة للتفاوض ككتلة واحدة فتتجنّب أن تصبح أجزاء هامشية تعتمد على القوى العظمى. لا توجد اليوم دولة قوميّة منعزلة قادرة على تأمين الخير العام لسكّانها.
154.حتى نتمكّن من تطوير مجتمع عالمي، قادر على تحقيق الأخوّة انطلاقًا من الشعوب والدول التي تعيش صداقة اجتماعية، فإننا بحاجة إلى السياسة الأفضل التي هي في خدمة الخير العام الحقيقي. لأن السياسة تتخّذ اليوم للأسف أشكالًا تعيق المسيرة نحو عالم مختلف.
155.قد يتخفّى ازدراءُ الضعفاء تحت أشكال شعبوية، تستخدمهم بشكل ديماغوجي من أجل غاياتها، أو بشكل ليبرالي في خدمة مصالح الأقوياء الاقتصادية. في كلتا الحالتين، من الصعب التفكير في عالم منفتح لديه المتسع للجميع، ويشمل الأضعف ويحترم مختلف الثقافات.
156.لقد غزت في السنوات الأخيرة كلمةُ “شعبوية” أو “شعبوي” وسائلَ الإعلام واللغة بشكل عام. إنها تفقد بهذه الطريقة القيمةَ التي قد تتضمّنها وتصبح أحد أقطاب المجتمع المنقسم. ووصل هذا إلى حدّ استلزام تصنيف جميع الأشخاص والمجموعات والمجتمعات والحكومات انطلاقًا من انقسام ثنائي: “شعبوي” أو “غير شعبوي”. ولم يعد من الممكن لأيّ شخص أن يبدي رأيه حول أي موضوع دون استلزام تصنيفه في أحد هذين القطبين، وأحيانًا بهدف التشهير به ظلمًا أو الإفراط في تمجيده.
157.إن استلزام إقامة الشعبوية مفتاحًا لقراءة الواقع الاجتماعي تشمل ضعفًا آخر: فهي تتجاهل شرعية مفهوم “الشعب”. وقد تؤدّي محاولة إزالة هذه الفئة من اللغة، إلى القضاء على نفس كلمة الديمقراطية (أي “حكم الشعب”). ومع ذلك، المجتمع هو أكثر من مجرّد مجموع الأفراد، وإذا أردنا التأكيد عليه فإنّ كلمة “شعب” ضرورية. والحقيقة أنّ هناك ظواهر اجتماعية تنظّم الأغلبية، وأنّ هناك نزعات-ضخمة، وتطلّعات جماعيّة. يمكننا أيضًا التفكير في أهداف مشتركة، تتخطّى الاختلافات، في سبيل تحقيق مشروع مشترك. أخيرًا، من الصعب جدًا التحضير لشيء كبير على المدى الطويل إذا لم يتحوّل إلى حلم جماعي. وما يعبّر عن كلّ هذا إنما هو الاسم “شعب” والصفة “شعبي”. وإذا لم نأخذهما في عين الاعتبار –بالإضافة إلى نقد قويّ للديماغوجية- فسوف نتخلّى عن جانب أساسيّ من الواقع الاجتماعي.
158.هناك في الواقع سوء فهم: “الشعب ليس فئة من فئات المنطق، ولا فئة روحانية، إذا فهمنا ذلك بمعنى أن كلّ ما يفعله الشعب هو جيّد، أو بمعنى أن الشعب هو فئة ملائكية. كلا، بل هو فئة أسطورية… عندما تشرح ما هو الشعب، تستخدم الفئات المنطقية لأنه عليك شرحه: هي بالطبع ضرورية. ولكنك لا تفسر بهذه الطريقة الشعورَ بالانتماء إلى الشعب. لكلمة “شعب” معنى آخر لا يمكن تفسيره منطقيًّا. الانتماء إلى شعبٍ ما هو الانتماء إلى هويّة مشتركة، تتكوّن من روابط اجتماعية وثقافية. وهذه ليست تلقائية، بل على العكس تمامًا: إنها عمليّة بطيئة وصعبة … نحو مشروع مشترك”[132].
159.هناك قادة شعبيون قادرون على تفسير حسّ الشعب وديناميكيّته الثقافية، وأهمّ توجّهات المجتمع. وتستطيع الخدمة التي يقدّمونها، إذ يقومون بتجميع الشعب وتوجيهه، أن تكون الأساس لمشروعٍ دائم من التحوّل والنموّ، يتضمّن أيضًا القدرة على التنحّي للآخرين من أجل الخير العام. ثم ينجرف نحو شعبوية غير سليمة عندما يتحوّل إلى قدرة شخص ما على جذب اهتمام الناس بهدف استغلال ثقافتهم سياسيًا، تحت أيّ شعار أيديولوجي، في خدمة مشروعه الشخصي واستمراره في السلطة. ويسعى مرّات أخرى إلى زيادة شعبيته من خلال تأجيج الميول المنحطّة والأنانية لبعض قطاعات السكّان. وهذا يتفاقم عندما يصبح، بأشكال فاضحة أو خفية، إخضاعًا للمؤسّسات وللشرعية.
160.إن المجموعات الشعبوية المغلقة تشوّه كلمة “شعب”، لأن ما يتكلّمون عنه ليس شعبًا بكلّ معنى الكلمة. أمّا فئة “الشعب” فهي منفتحة. الشعب الحيّ والديناميكي والذي له مستقبل، هو المنفتح باستمرار على تركيبات جديدة تشمل الآخر المختلف، ولا يكون ذلك منكرًا ذاته، إنما باستعداده لأن يتحرّك ويسأل ويتوسّع ويغتني من قِبَلِ الآخرين، وبهذه الطريقة يستطيع أن يتطوّر.
161.هناك شكل آخر يعبّر عن انحطاط القيادة الشعبية ألا وهو السعي إلى الربح الفوري. تُستجاب المطالب الشعبية من أجل ضمان الأصوات أو المساندة، ولكن دون التقدّم في عمل دؤوب ومستمرّ يقدّم للناس الموارد لتنميتهم الخاصّة، حتى يتمكّنوا من مساندة حياتهم بجهدهم وإبداعهم. وفي هذا النحو، قلت بوضوح إني “لا أفكر البتّة في طرح شعبوية لامسؤولة”[133]. فمن ناحية، التغلّب على عدم المساواة يتطلّب التنمية الاقتصادية، والاستفادة من إمكانيات كلِّ منطقة، وبالتالي ضمان العدالة المستدامة[134]. ومن ناحية أخرى، “برامج المساعدة، التي تعالج بعض الحالات الطارئة، يجب أن تُعتبر حلولًا مؤقّتة وحسب”[135].
162.القضية الكبرى هي العمل. ما هو شعبيّ حقًا -لأنه يعزّز خير الشعب- إنما هو أن تُضمَنَ للجميع إمكانيةُ تنمية البذور التي زرعها الله في كلّ شخص، وقدراته، ومبادرته، وقوّته. هذه أفضل مساعدة نقدّمها للفقراء، وأفضل سبيل لحياة كريمة. لذلك أُصِرّ على أنه “يجب أن تبقى مساعدة الفقراء بالمال علاجًا مؤقّتا لمواجهة الحالات الطارئة. فالمقصدُ الحقيقي هو السماح لهم بأن يعيشوا بكرامة عن طريق العمل”[136]. لا تستطيع السياسة، مهما تغيّرت آليات الإنتاج، أن تتخلّى عن هدف التأكّد من أن تنظيم المجتمع يضمن لكلّ شخص طريقةً للمساهمة بقدراته وجهوده. لأنه “لا يوجد فقر أسوأ من الحرمان من العمل وكرامة العمل”[137]. يُعَدُّ العمل في مجتمع متطوّر حقًا، بُعدًا أساسيًا في الحياة الاجتماعية، لأنه ليس فقط طريقةٌ لكسب لقمة العيش، إنما أيضًا سبيلٌ للتنمية الشخصية، وإقامة علاقات سليمة، والتعبير عن الذات، والمشاركة بالمواهب، والشعور بالمسؤولية المشتركة في إنماء العالم، وفي النهاية للعيش كشعب.
قيم الرؤى الليبرالية ومحدوديتها
163.إنّ فئة “الشعب”، التي تتضمّن تقييمًا إيجابيًا للعلاقات المجتمعية والثقافية، غالبًا ما تُرفَض من قِبَلِ الرؤى الليبرالية ذات النزعة الفردية، حيث يُعدُّ المجتمع بمنزلة مجموعٍ بسيط من المصالح المتعايشة. فهم يتحدّثون عن احترام الحرّيات، ولكن بدون جذور ثقافة جماعية. وفي سياقات معيّنة، من الشائع اتّهام جميع الذين يدافعون عن حقوق الأضعف في المجتمع بالشعبوية. وبالنسبة لهذه الرؤى، فإن فئة “شعب” هي أسطورة لشيء غير موجود في الواقع. ومع ذلك، ينشأ هنا استقطاب غير ضروري، لأنه لا فكرة شعب ولا فكرة قريب هي فئات أسطورية أو رومانسية خالصة تستبِعد أو تحتقِر التنظيم الاجتماعي والعلم ومؤسّسات المجتمع المدني[138].
164.أمّا المحبةُ فتَجمَع بين البُعدَين -الأسطوري والمؤسّسي- لأنها تتضمّن مسيرة فعّالة لتغيير التاريخ الذي يتطلّب شملَ كلّ شيء: المؤسّسات، والقانون، والتقنية، والخبرة، والمساهمات المهنية، والتحاليل العلمية، والإجراءات الإدارية، وغيرها. لأنه “لا توجد في الواقع حياة خاصّة إذا لم تكن محميّة بالنظام العام؛ والبيت الدافئ لا يتمتّع بالخصوصية إذا لم يكن تحت وصاية الشرعية، وفي حالة من الطمأنينة تقوم على القانون والقوّة ومع حدّ أدنى من الرفاهية التي يضمّنها توزيع العمل، والتبادلات التجارية، والعدالة الاجتماعية، والمواطنة السياسية”[139].
165.إن المحبّة الحقيقية قادرة على شمل كلّ هذا في تفانيها، وإذا كان عليها أن تعبّر عن نفسها في لقاء شخصّي، فهي قادرة أيضًا على بلوغ أختٍ أو أخٍ بعيد أو حتى متجاهَل، عبر مختلف الموارد التي تقدر أن تخلقها مؤسّسات مجتمع منظّم، حرّ وخلّاق. من وجهة النظر هذه، حتى السامري الصالح احتاج إلى وجود نزلٍ يسمح له بتأمين ما لم يكن يستطيع ضمانه وحده في ذلك الوقت. محبّة القريب هي واقعية ولا تبدّد أيّ شيء ضروري من أجل تحويل التاريخ لصالح الأخيرين. خلاف ذلك، هناك أحيانًا إيديولوجيات يسارية أو مذاهب اجتماعية، إلى جانب عادات فرديّة وإجراءات غير فعّالة، لا تصل إلّا إلى القليل من الأشخاص. بينما تُرِكَ الكثيرون تحت رحمة حسن نيّة البعض. هذا يدلّ على ضرورة، ليس فقط تشجيع روحانية الأخوّة، إنما أيضًا تنظيم عالمي أكثر كفاءة من أجل المساعدة في حلّ المشاكل الملحّة، مشاكل الأشخاص المتروكين الذين يعانون ويموتون في البلدان الفقيرة. وهذا بدوره يعني أنه لا يوجد مخرج واحد ممكن، ومنهجيّة واحدة مقبولة، ووَصفَة اقتصادية يقدر أن يطبّقها الجميع بالتساوي، وهذا يفترض مسبقًا أنه حتى أكثر العلوم صرامة يمكنها اقتراح مسارات مختلفة.
166.كلّ هذا قد يفتقر جدًّا إلى القوام، إذا فقدنا القدرة على الاعتراف بأن هناك حاجة إلى تحوّلٍ داخل قلوب البشر وعاداتهم وأنماط حياتهم. هذا ما يحدث عندما تستمرّ حملات الدعاية السياسية ووسائل الإعلام وصانعي الرأي العام، في تعزيز ثقافة فرديّة وساذجة، إزاء المصالح الاقتصادية العشوائية وتنظيم المجتمعات في خدمة الذين يتمتّعون بسلطة كبيرة. لذلك، فإن انتقادي للنموذج التكنوقراطي لا يعني أننا بمجرّد محاولة التحكّم في تجاوزاته يمكننا أن نكون بأمان، لأن الخطر الأكبر لا يكمن في الأشياء، أو في الحقائق المادّية، أو في المنظمات، ولكن في الطريقة التي يستخدمها الناسُ فيها. المسألة هي ضعف الإنسان، والميل الدائم إلى الأنانية التي هي جزء مما يسمّيه التقليد المسيحي “الشهوة”: ميل الإنسان إلى الانغلاق على جوهر كيانه “الأنا”، وعلى جماعته، ومصالحه السخيفة. هذه الشهوة ليست عيب هذا العصر. فقد وُجِدَت منذ أن كان الإنسان إنسانًا ولكنها تتحوّل ببساطة، وتكتسب طرائق مختلفة في كلّ قرن، وأخيرًا تستخدم الأدوات التي تضعها اللحظة التاريخية تحت تصرّفها. لكن من الممكن السيطرة عليها بعون الله.
167.إن المهمّة التربوية، وتطوير العادات التضامنية، والقدرة على التفكير في حياة الإنسان بشكل أكثر تكاملًا، والعمق الروحي، هي ضرورية لإضافة الجودة على العلاقات الإنسانية، بحيث يكون المجتمع نفسه هو الذي يتفاعل إزاء أوجه الظلم فيه، والانحرافات والانتهاكات التي ترتكبها القوى الاقتصادية أو التكنولوجية أو السياسية أو الإعلامية. هناك رؤى ليبرالية تتجاهل عامل الضعف البشري هذا، وتتخيّل عالمًا يستجيب لنظام معيّن يمكنه بحدّ ذاته ضمان المستقبل وحلّ جميع المشاكل.
168.لا يحلّ السوقُ وحده كلّ شيء، على الرغم من أنهم يريدوننا مرّة أخرى أن نصدّق عقيدة الإيمان النيوليبرالي هذه. إنه تفكير ركيك ومتكرّر، يقترح دائمًا الوصفات نفسها إزاء أيّ تحدٍّ ينشأ. فالنيوليبرالية تعيد استنساخ ذاتها فحسب، وتلجأ إلى نظرية “توزيع الفيض” أو “التقطير” السحريّة -دون أن تسمّيها- باعتبارها الطريقة الوحيدة لحلّ المشاكل الاجتماعية. ولا تلاحظ أن توزيع الفيض المزعوم لا يحلّ مشكلة عدم المساواة، بل هو مصدر لأشكال جديدة من العنف تهدّد النسيج الاجتماعي. فمن ناحية، من الضروريّ اتّباع سياسة اقتصادية نشطة تهدف إلى “تعزيز اقتصادٍ يشجّعُ الإنتاج المتنوّع والإبداع التصنيعي”[140]، بحيث يمكن زيادة فرص العمل بدل من الحدّ منها. أمّا المضاربات المالية التي تهدف بشكل أساسيّ إلى الربح السهل ما زالت تواصل مجزرتها. علاوة على ذلك، “دون أشكالِ التضامنِ الداخلي والثقةِ المتبادلة لا يمكن للسوقِ إكمالُ تنفيذِ مهمَّتِه الاقتصادية. هذه الثقة قد فُقِدَت في أيّامنا”[141]. لم تنتهِ القصّة على هذا الشكل، وأظهرت الوصفات العقائدية للنظرية الاقتصادية السائدة أنها ليست معصومة عن الخطأ. وقد أظهرت ضعف النظم العالمية إزاء الجائحة أن حرّية السوق لا تحلّ كلّ شيء وأنه بالإضافة إلى إعادة تأهيل سياسة سليمة لا تخضع لإملاءات التمويل، “علينا أن نعيد وضع كرامة الإنسان في المحور وأن نبني على تلك الركيزة الهيكليات الاجتماعية البديلة التي نحتاجها”[142].
169.يبدو أنه لا يوجد فسحة، في بعض الرؤى الاقتصادية المغلقة والأحادية اللون، على سبيل المثال، للحركات الشعبية التي تجمع العاطلين عن العمل، والعاملين غير المستقرين، وعمّال القطاع غير المنظم، وآخرين كثيرين الذين لا يتناسبون بسهولة مع الإمكانيات القائمة. فهي في الواقع تخلق أشكالًا مختلفة من الاقتصاد الشعبي والإنتاج المجتمعي. من الضروري التفكير في المساهمة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية بطريقة “تشمل الحركات الشعبية وتشجّع البُنى الحكوميّة المحلّية والوطنيّة والدوليّة عبر ذاك الفيض من الطاقة الخُلُقية الذي ينشأ عن إشراك المستبعَدين في بناء المصير المشترك”، ومن الجيّد أيضًا أن نساعد “الحركات، وخبرات التضامن هذه التي تنمو انطلاقًا من الأسفل، من باطن الكوكب، حتى تتقارب، وتكون أكثر تنسيقًا، وتتلاقى”[143]. لكن من دون أن نخذل أسلوبهم المميز، لأنهم “زارِعو تغيير، ومروِّجو عمليّة تلتقي فيها الملايين من الأعمال العظيمة والصغيرة معًا بشكل خلّاق، كما في الشعر”[144]. وبهذا المعنى فهم “شعراء اجتماعيّون”، يعملون، ويقترحون، ويشجّعون، ويحرّرون بطريقتهم الخاصّة. من الممكن، معهم، العمل على تنمية بشرية متكاملة، التي تتطلّب التغلّب على “فكرة السياسات الاجتماعية التي تُفهم كسياسة تجاه الفقراء ولكن ليست أبدًا مع الفقراء، ولا سياسة الفقراء، وناهيك عن إدراجها في مشروع يعيد توحيد الشعوب”[145]. على الرغم من أنها مزعجة، وعلى الرغم من أن بعض “المفكّرين” لا يعرفون كيف يصنّفونها، فمن الضروري أن تكون لدينا شجاعة الاعتراف بأنه بدونها “تضمحلّ الديموقراطية، وتصبح إسمية، أو إجراء شكليّ، وتفقد رمزيتّها، وتنفصل عن الواقع لأنها تترك الشعب خارجًا في جهاده اليوميّ من أجل الكرامة، وفي بناء مصيره”[146].
170.أودّ أن أكرّر أن “الأزمة المالية لعامَي 2007- 2008 [كانت] فرصة لتنمية اقتصادٍ جديد وأكثر انتباهًا للمبادئ الأخلاقية، ولوضع تنظيم جديد للمضاربات المالية وللثراء الوهميّ. لكن ردّة الفعل على الأزمة لم تدفعنا، للأسف، إلى إعادة النظر في المعايير التي عفا عليها الزمن والتي لا تزال تحكم العالم”[147]. علاوة على ذلك، يبدو أن الاستراتيجيات الحقيقية التي تطوّرت لاحقًا في العالم كانت موجّهة نحو المزيد من الفرديّة، والمزيد من التفكّك، والمزيد من الحرّية للأقوياء الحقيقيّين الذين يجدون دائمًا طريقة للإفلات.
171.أودّ أن أكرّر أنّ “إعطاء كلّ فرد خاصّته، وفقًا للتعريف التقليدي للعدالة، يعني أنه لا يمكن اعتبار أيّ فرد أو مجموعة بشرية مطلق القدرة، ومسموح له بالدوس على كرامة وحقوق الآخرين، الأفراد أو المجموعات الاجتماعية التي ينتمون إليها. التوزيع الفعلي للسلطة (ولا سيما السياسية، والاقتصادية، والدفاعية، والتكنولوجية، أو غيرها) بين عدد كبير من الأشخاص، وإنشاء نظام تشريعي لتنظيم المطالبات والمصالح، يضع حدودًا للسلطة. ومع ذلك، يقدّم لنا المشهد العالمي اليوم العديدَ من الحقوق الزائفة، ويقدّم في الوقت ذاته قطاعات شاسعة دون أيّة حماية، ضحيّة ممارسة سيّئة للسلطة”[148].
172.يشهد القرن الحادي والعشرون “تَرَدِّيا في سلطاتِ الدولِ الوطنيّة، وبالأخصّ، لأن البعد الاقتصادي-المالي، ببعده المتعدّد الجنسيات، يميل إلى الهيمنة على السّياسة. في هذا السّياق، يصبح من الضروريّ إقامة هيئات دوليّة أكثر قوة ومنظمة بطريقة فعّالة، تمتلك سلطات محددة بشكل مُنصف من خلال الاتفاق ما بين الحكومات الوطنية، ومتمتّعة بسلطة فرض عقوبات”[149]. عند الحديث عن إمكانية وجود شكل من أشكال السلطة العالمية ينظّمها القانون[150]، لا ينبغي أن نفكّر بالضرورة في سلطة شخصيّة. ومع ذلك، ينبغي أن تشمل على الأقلّ إنشاء منظّمات عالمية أكثر فاعلية، تتمتع بسلطة كافية لضمان الخير العام العالمي، والقضاء على الجوع والبؤس، والدفاع الأكيد عن حقوق الإنسان الأولية.
173.وفي هذا المنظور، أذكّر أن الإصلاحَ ضرورةٌ لكلٍّ من “هيئةِ الأممِ المتحدةِ والهيكلِ الدوليّ للاقتصاد والمال، حتى يتحقَّقَ بشكلٍ ملموسٍ مفهومُ أسرة الأمم“[151]. وهذا يفترض دون شكّ حدودًا قانونية معيّنة لتفادي أن تكون سلطة يتبنّاها فقط بعض البلدان، ولمنع فرض ثقافة ما أو تقويض الحرّيات الأساسيّة في الدول الأضعف بسبب الاختلافات الأيديولوجية. لأن “المجتمع الدولي هو مجتمع قانوني يقوم على سيادة كلّ دولة من الدول الأعضاء، دون روابط تبعيّة تنكر أو تحدّ من استقلالها”[152]. ولكن “مهمّة الأمم المتّحدة، وبدءًا من المفاهيم الواردة في التمهيد والمواد الأولى لميثاقها التأسيسي، يمكن رؤيتها كتطوّر وتعزيز لسيادة القانون، علمًا بأن العدالة هي شرط أساسي لتحقيق مثال الأخوّة الشاملة. […] ينبغي ضمان السيادة المطلقة للقانون واللجوء بلا كلل إلى التفاوض، والمساعي الحميدة والتحكيم، كما يقترح ميثاق الأمم المتّحدة، التي هي قاعدة قانونيّة أساسيّة حقّة”[153]. يتعيّن بالتالي تفادي فقدان شرعيّة هذه المنظّمة، لأنه من الممكن معالجة مشاكلها وأوجه قصورها وحلّها عبر عمل مشترك.
174.من الضروري التحلّي بالشجاعة والسخاء من أجل وضع أهداف مشتركة معيّنة بحرّية وضمان الالتزام ببعض المعايير الأساسيّة في جميع أنحاء العالم. ولكي يكون هذا مفيدًا حقًا، يجب الالتزام بـ “شرط الامتثال للاتّفاقات الموقّعة –pacta sunt servanda-“[154]، وذلك لتجنّب “تجربة اللجوء إلى قانون القوّة بدلًا من قوّة القانون”[155]. وهذا يتطلّب تعزيز “الأدوات التنظيمية من أجل تسوية سلمية للنزاعات، بحيث يوطّد نطاقها وطبيعتها الإلزامية”[156]. ومن بين هذه الأدوات المعيارية، ينبغي تفضيل الاتّفاقات المتعدّدة الأطراف بين الدول، لأنها تضمن، أكثر من الاتّفاقات الثنائية، العنايةَ بالخير المشترك الذي هو حقًّا عالمي وحماية الدول الضعيفة.
175.نشكر الله على أن العديد من تجمّعات ومنظّمات المجتمع المدنيّ تساعد في التخفيف من نقاط ضعف المجتمع الدولي، وافتقاره إلى التنسيق في المواقف المعقّدة، وعدم اهتمامه بحقوق الإنسان الأساسية والحالات الصعبة للغاية في بعض الجماعات. وبالتالي، يكتسب مبدأ الإمدادية (Subsidiarité) تعبيرًا ملموسًا يضمن مشاركة وعمل الجماعات والمجتمعات الأقلّ مرتبة، والتي تستكمل عمل الدولة. فغالبًا ما تبذل جهودًا جديرة بالثناء وهي تتطلّع إلى الخير العام، ويتوصّل بعض أعضائها إلى القيام بأعمال بطولية حقًّا تُظهِر مدى الجمال الذي لا تزال إنسانيتنا قادرة عليه.
176.إن كلمة “سياسة” بالنسبة للكثيرين اليوم هي كلمة قبيحة، ولا يمكن الإغفال عن أن وراء هذه الحقيقة هناك غالبًا أخطاء بعض السياسيّين وفسادهم وعدم كفاءتهم. يُضاف إلى ذلك الاستراتيجيات التي تسعى إلى إضعافها أو استبدالها بالاقتصاد أو الهيمنة عليها عبر بعض الأيديولوجيات. ولكن هل يمكن للعالم أن يسير دون سياسة؟ هل يمكن أن يكون هناك سبيل فعّال يقود إلى الأخوّة الشاملة والسلام الاجتماعيّ دون سياسة صالحة؟[157].
177.أسمح لنفسي بأن أكرّر مجدّدًا أن السياسة يجب “ألّا تخضع للاقتصاد، ويجب على الاقتصاد ألّا ينصاع لإملاءات ونماذج الكفاءة الإنتاجية التكنوقراطية”[158]. على الرغم من أنه يجب رفض إساءة استخدام السلطة، والفساد، وعدم احترام القوانين، وعدم الكفاءة، “لا يمكن تبرير اقتصاد من دون سياسة، اقتصاد ربما غير قادر على التوصّل لمنطق آخر قادر على إدارة مختلف جوانب الأزمة الحالية”[159]. بل على العكس، “إننا بحاجة إلى سياسة تفكّر برؤية واسعة، تبني مقاربة متكاملة جديدة، تشمل مختلف جوانب الأزمة في حوار متعدّد التخصّصات”[160]. أفكّر في “سياسة سليمة، قادرة على إصلاح المؤسّسات وتنسيقها، وتزويدها بممارسات جيّدة، تسمح بتخطّي الضغوطات والخمول الفاسد”[161]. لا يمكن أن نطلب هذا من الاقتصاد، ولا يمكن أن نقبل أن يتولّى الاقتصاد سلطة الدولة الحقيقية.
178.إزاء العديد من الأشكال السياسة السخيفة أو الساعية إلى الربح الفوري، أذكّر أن “العظمة السياسية تظهر حين، ولا سيّما في الأوقات الصعبة، يتمّ تطبيق المبادئ العظيمة والتفكير بالخير العام على المدى البعيد. لكنَّ السلطة السياسية تجد صعوبة بالغة في قبول هذا الواجب ضمن مشروع وطني”[162]، وبالأخصّ ضمن مشروع مشترك للبشرية الحاليّة والمستقبلية. إن التفكير في الأجيال المستقبلية لا يفيد الأغراض الانتخابية، ولكن هذا ما تتطلّبه العدالة الحقيقية، لأن الأرض، كما علّم أساقفة البرتغال، “هي قرض يناله كلّ جيل وعليه أن ينقله إلى الجيل التالي”[163].
179.إن المجتمع العالمي يعاني من أوجه قصور هيكلية خطيرة لا يمكن حلّها بالترقيع أو بحلول سريعة عرضيّة بحتة. هناك أشياء يجب أن تتغيّر بواسطة عملية إعادة تفكير أساسية وتحوّلات رئيسية. وحدها السياسة السليمة تستطيع أن تقود هذا التغيير، فتُشرِك القطاعات المختلفة والمعرفة على تنوّعها. وبهذه الطريقة، يستطيع الاقتصاد المندمج في مشروع سياسي واجتماعي وثقافي وشعبي، الذي يسعى إلى الخير العام، أن يفتح “الطريق نحو فُرصٍ مُختلفةٍ، لا تستوجب الحدّ من الإبداع البشري ومن حلمه بالتقدّم، بل تحتاج إلى توجيه هذه الطاقة بأسلوب جديد”[164].
180.إن الاعتراف بكلّ إنسان كأخ أو أخت، والسعي إلى صداقةٍ اجتماعية تشمل الجميع، ليسا مجرّد يوتوبيا. يتطلّبان القرار والقدرة على إيجاد الطرق الفعّالة التي تجعلهما ممكنين حقًا. أيّ مسعى في هذا الاتّجاه يصبح ممارسة سامية للمحبّة. لأن الفرد يستطيع أن يساعد شخصًا محتاجًا، ولكن عندما يتّحد بالآخرين لإنشاء عمليّات اجتماعيّة من الأخوّة والعدالة للجميع، فإنه يدخل “مجال المحبّة العظمى، أي المحبة السياسية”[165]. يعني التقدّم باتّجاه نظامٍ اجتماعيّ وسياسيّ روحه المحبّة الاجتماعية[166]. إني أدعو مجدّدًا إلى إعادة تأهيل السياسة، التي هي “دعوة في غاية النبل، وهي من أثمن أشكال المحبّة، لأنها تسعى للخير العام”[167].
181.كلّ الالتزامات التي تنبثق من عقيدة الكنيسة الاجتماعية “تُستَمَدّ من المحبّة التي، وفقًا لتعليم يسوع، هي خلاصة الشريعة كلّها (را. متى 22، 36- 40)”[168]. وهذا يعني الاعتراف بأن “المحبّة، المملوءة ببوادر اعتناء متبادل، هي أيضًا مدنيّة وسياسيّة، وتَظهَر في كلّ الأعمال التي تحاول بناء عالم أفضل”[169]. لهذا السبب، لا تظهر المحبّة في علاقات حميمة وقريبة وحسب، إنما أيضًا في “العلاقات-الواسعة، مثل العلاقات الاجتماعية، والاقتصادية، والسياسية”[170].
182.تفترض هذه المحبّة السياسية تنميةَ حسّ اجتماعي يتخطّى أيّ عقليّة فرديّة: “تجعلنا المحبّة الاجتماعية نحبّ الخير العام وتقودنا إلى السعي الفعّال لتحقيق خير جميع الناس، ليس فقط على المستوى الفردي، ولكن أيضًا في البعد الاجتماعي الذي يوحّدهم”[171]. فكلّ فردٍ هو شخص بالتّمام عندما ينتمي إلى شعب ما، وفي الوقت ذاته لا يوجد شعب حقيقي دون احترام وجه كلّ شخص ينتمي إليه. الشعب والشخص هما مصطلحان مترابطان. ومع ذلك، فإن الهدف اليوم هو اختزال الأشخاص إلى أفرادٍ مِن السهلِ أن تسيطر عليهم قوى تسعى إلى مصالح غير مشروعة. أمّا السياسة الصالحة فتبحث عن طرقٍ لبناء المجتمعات على مختلف مستويات الحياة الاجتماعية، من أجل إعادة التوازن، وإعادة توجيه العولمة، بُغيَةَ تجنّب آثارها التفكيكية.
183.انطلاقًا من “المحبّة الاجتماعيّة”[172] من الممكن أن نتقدّم نحو حضارة المحبّة التي نستطيع جميعًا أن نشعر أننا مدعوّون إليها. تستطيع المحبة، بديناميكيتها الشاملة، أن تبني عالمًا جديدًا[173]، لأنها ليست شعورًا عقيمًا، بل أفضل طريقة لتحقيق مسارات إنمائية فعّالة للجميع. المحبّة الاجتماعية هي “قوّة قادرة على خلق طرق جديدة لمواجهة مشاكل العالم اليوم ولتحقيق تجديد عميق للهيكليات والمنظمات الاجتماعية والنظم القانونية، انطلاقًا من الداخل”[174].
184.المحبّة هي في محور كلّ حياة اجتماعية سليمة ومنفتحة. ولكن في أيّامنا هذه، “أصبح من السهل تأكيد عدم أهمّيتها في فهم وتوجيه المسؤوليّات الخُلُقية”[175]. إن المحبّة هي أكثر من إظهار غير موضوعي للعواطف، إذا كانت مصحوبة بالعمل من أجل الحقيقة، بحيث لا تقع المحبّة “فريسة انفعالاتِ الأشخاصِ وآرائِهم المتغيّرة”[176]. فعلاقة المحبّة بالحقّ على وجه التحديد تسهّل شموليتها، وبالتالي تحفظها من “أن تُحتَجَز في المجالِ الضيّقِ للعلاقاتِ الشخصية”[177]. وإلّا، فستغدو “مستبعدةً عن مشاريعِ وعملياتِ التنميةِ الإنسانيةِ المتكاملة، وعن الحوارِ بين المعرفة والتطبيق”[178]. وبدون الحقيقة، تُفرَغ المشاعرُ من أيّ مضمون علائقي واجتماعي. هذا هو السبب في أن الانفتاح على الحقيقة يحمي المحبّة من إيمانٍ باطل يحرمها “البُعدَ الإنساني والشمولي”[179].
185.تحتاج المحبّة إلى نور الحقّ الذي نسعى إليه باستمرار و “هذا النور هو في الوقت ذاته نور العقل ونور الإيمان”[180]، بعيدًا عن أية نسبيّة. وهذا يفترض كذلك تطوّر العلم ومساهمته الضرورية في سبيل إيجاد طرق ملموسة ومضمونة لتحقيق النتائج المرجوّة. لأنه عندما يكون خير الآخرين على المحكّ، فإن النوايا الحسنة لا تكفي، بل المسألة هي أن ينالوا كلّ ما يحتاجونه هم ودولهم، كي يحقّقوا ذواتهم.
186.هناك ما يُسمّى بالمحبّة “العفويّة”، التي هي أفعال تنبع مباشرة من فضيلة المحبّة، وتتوجّه إلى الأشخاص والشعوب. هناك أيضًا المحبّة “الواجبة”، والتي هي أعمال المحبّة التي تشجّع على إنشاء مؤسّسات سليمة، وأنظمة أكثر عدلًا، وهيكليّات أكثر تضامنية[181]. ومن هنا، فإن “عمل المحبّة الضروريّ أيضًا هو الجهد الموجّه لتنظيم المجتمع وبنائه بحيث لا يصيب البؤسُ القريبَ”[182]. مرافقة الشخص الذي يعاني هو عمل محبّة، وكذلك كلّ ما نقوم به، حتى دون اتّصال مباشر به، في سبيل تغيير الظروف الاجتماعية التي تتسبّب في معاناته. قد يساعد أحدُهم رجلًا عجوزًا في عبور النهر -وهذا عمل محبّة رائع-، أمّا السياسيّ فيبني له جسرًا، وهذا أيضًا محبّة. قد يساعد أحدُهم شخصًا آخر مقدّمًا له الطعام، أمّا السياسيّ فيخلق له مصدرًا للعمل، ويمارس أسمى أشكال المحبّة التي تَسِمُ بالنبل عمله السياسي.
187.هذه المحبّة، التي هي قلبُ روح ِالسياسة، هي دائمًا محبّة تفضيلية للأخيرين، وهي وراء كلّ عمل نقوم به لصالحهم[183]. فليس باستطاعتنا أن نكتشف الفقراء ونقيّمهم في كرامتهم العظيمة، ونحترمهم في أسلوبهم الخاص وفي ثقافتهم، وبالتالي أن ندمجهم حقًا في المجتمع، إلّا عبر نظرة قد غيّرت المحبةُ أفقَها، فقادتها إلى إدراك كرامة الآخر. وهذه النظرة هي جوهر الروح الأصيلة للسياسة. ومن هنا، ثمّة اختلاف بين المسارات التي تنفتح والمسارات البراغماتية التي لا روح لها. على سبيل المثال، “لا يمكن معالجة فضيحة الفقر من خلال تعزيز استراتيجيات “الاحتواء“ التي تُطَمئِن وتحوّل الفقراء إلى كائنات مُرَوّضة وغير مؤذية. كم هو محزن أن نرى، وراء الأعمال التي من المفترض أن تهدف إلى المشاركة الحيّة في مصاعب الآخرين، كيف يُنتَزَع من الآخر أيّ دور يمكن أن يلعبه”[184]. إن المطلوب هو إيجاد إمكانات متنوّعة للتعبير والمشاركة الاجتماعيّة. التربية هي في خدمة هذا الطريق بحيث يمكن لكلّ إنسان أن يكون صانعَ مصيره. هنا تَظهَر قيمة مبدأ الإمدادية (Subsidiarité) الذي لا ينفصل عن مبدأ التضامن.
188.من هنا تأتي الحاجة الملحّة لإيجاد حلّ لكلّ ما ينتهك حقوق الإنسان الأساسية. والسياسيون هم مدعوّون إلى “الاهتمام بشأن الهشاشة، هشاشة الشعوب والأفراد. والاهتمام بالهشاشة يعني القوّة والعطف، والنضال والخصوبة، وسط نموذج وظيفي وخصوصي يقود لا محالة إلى “ثقافة الاستبعاد”. […] يعني تولّي مسؤولية الحاضر في أوضاعه الأكثر هامشية والأشدّ إحباطًا، والقدرة على منحه الكرامة”[185]. وبالتالي، يولّد بالتأكيد نشاطًا مكثّفًا، لأنه “من الواجب صنع كلّ ما هو ضروري للحفاظ على وضع الإنسان وكرامته”[186]. السياسي هو نشيط، هو من البُناة ذوي الأهداف العظيمة، رؤيته واسعة وواقعية وعمليّة، حتى خارج بلده. إن معاناة أيّ سياسي لا ينبغي أن تكون تلك التي يسبّبها السقوطُ في استطلاعات الرأي، بل عدمُ إيجاد حلّ فعّال لظاهرة “الإقصاء الاجتماعي والاقتصادي، مع تبعاتها الأليمة، من اتّجار بالكائنات البشرية وبالأعضاء والأنسجة البشرية، ومن استغلال جنسيّ للأطفال، ومن عمل استعبادي بما في ذلك الدّعارة، والاتّجار بالمخدّرات والأسلحة، والإرهاب والجريمة الدوليّة المنظمة. ونظرًا للحجم الكبير لهذه الأوضاع وعدد الأرواح البريئة، ينبغي علينا تحاشي كلّ ميل إلى الوقوع في النزعة الاسميّة الخطابية ذات المفعول المهدّئ للضّمائر. علينا التنبّه لأن تكون مؤسّساتنا فعّالة حقًا في مكافحة جميع هذه الآفات”[187]. يمكن تحقيق هذا من خلال الاستفادة، بفطنة، من الموارد العظيمة للتطوّر التكنولوجي.
189.ما زلنا بعيدين عن عولمةِ أبسطِ حقوقِ الإنسان. لهذا السبب، لا يمكن للسياسة العالمية أن تفشل في ضمّ هدف القضاء على الجوع بشكل فعّال إلى أهدافها الرئيسية والمقنعة. لأنه “عندما تكيّفُ المضاربةُ المالية سعرَ الغذاء، وتعامله مثل أيّ سلعة أخرى، يعاني ملايين الأشخاص من الجوع ويموتون. ومن ناحية أخرى، تُهدَر أطنان من الطعام. إنها لفضيحة حقيقية. الجوع إجرام، والغذاء هو حقّ مُطلق”[188]. ونحن ننخرط، في الكثير من الأحيان، في مناقشات دلالية أو أيديولوجية، بينما نسمح بأن يكون هناك اليوم إخوة وأخوات، يموتون من الجوع أو العطش، دون سقف يحميهم أو دون الحصول على الرعاية الصحية. أمّا الاتّجار بالبشر، بالإضافة إلى هذه الاحتياجات الأساسية غير الملبّاة، فيُعَدّ عارًا آخر على الإنسانية، ينبغي ألاّ تسمح به السياسة الدولية بعد الآن، فيما وراء الخِطَب والنوايا الحسنة. وهو الحدّ الأدنى الضروري.
190.تَظهَر المحبّة السياسية كذلك عبر الانفتاح على الجميع. فمَن لديه مسؤوليّة الحكم هو مدعوّ بشكل خاصّ إلى القيام بتنازلات تعزّز اللقاء. ويسعى إلى التقارب على الأقل في بعض القضايا. يعرف كيف يستمع إلى وجهة نظر الآخر، فيسهّل إعطاء المجال للجميع. يستطيع الحاكم، عن طريق التنازلات والصبر، أن يساعد على إنشاء ذلك المجال المتعدّد الأوجه حيث يوجد مكان للجميع. لا نفع، في هذا المجال، للمفاوضات ذات الطابع الاقتصادي. فهو أكثر من ذلك، إنه تبادل للتقدِمات من أجل الخير العام. يبدو كأنه يوتوبيا ساذجة، لكن لا يمكننا التخلّي عن هذا الهدف النبيل.
191.بينما نرى أن جميع أنواع التشدّد الأصولي يدمّر العلاقات بين الناس والجماعات والشعوب، تعالوا نعيش ونعلّم قيمة الاحترام، والمحبّة القادرة على تحمّل جميع الاختلافات، وأولوية كرامة كلّ إنسان على أيّ من أفكاره ومشاعره وممارساته وحتى خطاياه. وبينما ينتشر التعصّب والمنطق المنغلق والتشرذم الاجتماعي والثقافي في مجتمع اليوم، يتّخذ السياسيُ الصالح الخطوةَ الأولى كي يُسمِع صدى الأصوات المختلفة. صحيح أن الاختلافات تولّد الصراعات، لكن التجانس يولّد الاختناق “فيضيق نفسنا” بفعل الامتلاء بذواتنا ثقافيًا. لا نستسلمنّ للعيش مأسورين في جزء من الواقع.
192.وفي هذا السياق، أودّ أن أذكّر أننا، مع فضيلة الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب نطالب، “صُنَّاعَ السِّياساتِ الدَّولِيَّةِ والاقتصادِ العالَمِيِّ، بالعمَلِ جدِّيًّا على نَشْرِ ثقافةِ التَّسامُحِ والتعايُشِ والسَّلامِ، والتدخُّلِ فَوْرًا لإيقافِ سَيْلِ الدِّماءِ البَرِيئةِ”[189]. وعندما تَزرع سياسةٌ معيّنة الكراهيةَ أو الخوفَ تجاه الدول الأخرى باسم مصلحة بلدها، فمن الضروري أن نهتمّ ونتفاعل في الوقت المناسب ونصحّح المسار على الفور.
193.بينما يستكمل كلُّ سياسي هذا النشاط الدؤوب، إنه في الوقت ذاته إنسان أيضًا. وهو مدعوّ لعيش المحبّة في علاقاته الشخصية اليومية. هو إنسان، وعليه أن يحذر من أن “العالم الحديث، بسبب كماله التقني، يميل أكثر فأكثر إلى عَقلَنة إشباع الرغبات البشرية، المصنّفة والموّزعة بين مختلف الخدمات. إننا نفقد تدريجيًّا واجب دعوة الشخص باسمه الشخصي، ونفتقد تدريجيًّا إلى التعامل مع هذا الكائن الفريد في العالم على أنه شخص، والذي له قلبه ومعاناته ومشاكله وأفراحه وعائلته. نعرف فقط أمراضه كي نعالجها، وافتقاره للمال كي نوفّره له، وحاجته إلى منزل كي نؤمّنه له، ورغبته في الترفيه واللهو كي ننظّمها له. لكن “أن نحبّ أقلّ الناس كأخ، كما لو كان لا يوجد في العالم إلّا هو، ليس تضييعًا للوقت”[190].
194.هناك مجال في السياسة أيضًا كي نحبّ بحنان. “ما هو الحنان؟ إنه المحبّة التي تتقرّب من الآخرين وتصبح ملموسَة. إنه حركة تنبع من القلب وتبلغ العينين والأذنين واليدين. […] الحنان هو الطريق الذي سلكه أشجع وأقوى الرجال والنساء”[191]. في خضمّ النشاط السياسي، “يجب أن يلمسنا الأصغر والأضعف والأكثر فقرًا: لديهم “الحقّ“ في احتلال روحنا وقلوبنا. نعم، هم إخوتنا وعلينا أن نحبّهم ونتعامل معهم”[192].
195.وهذا يساعدنا على الإدراك أن المسألة لا تتعلّق دائمًا بتحقيق نجاح كبيرٍ غير ممكن أحيانًا. علينا أن نذكّر في النشاط السياسي، أنه “بغضّ النظر عن أيّ مظهر، فكلّ كائن هو مقدّس ويستحقّ عطفنا وتفانينا. لذلك، إذا نجحتُ في مساعدة شخص واحد كي يحظى بحياة أفضل، فهذا يبرّر عطيّة حياتي. إنه لجميل أن نكون شعب الله الأمين. ونبلغ الملءَ عندما نهدم الجدران كي يمتلئ قلبُنا وجوهًا وأسماء!”[193]. فتتحقّق جزئيًّا الأهدافُ العظمى التي تحلم بها الاستراتيجيات. وأبعد من ذلك، إن الشخص الذي يحبّ ولا يعتبر بعد السياسة مجرّد سعي وراء السلطة، يكون على يقين “من أنه لن يضيع له عمل حقّقه بمحبّة، ولا أيّ من اهتماماته الصادقة تجاه الآخرين، ولا أيّ عمل من أعمال محبّة الله، ولا أيّ تعب سخيّ، أو صبر أليم. هذا كلّه يطوف العالمَ مثل قوّة حياة”[194].
196.من ناحية أخرى، فأن نكون قادرين على إطلاق عمليّات تجمع بثمارها الآخرين، واضعين الرجاء في قوى الخير السرية التي نزرعها، إنما هو نُبلٌ رفيع. السياسة الصالحة تجمع المحبّة بالرجاء، أي بالثقة في مخزن الخير الموجود في قلب الناس رغم كلّ شيء. ولهذا “فالحياة السياسيّة الأصيلة، القائمة على القانون وعلى الحوار الأمين بين الأشخاص، تتجدّد من خلال القناعة بأن كلّ امرأة، وكلّ رجل، وكلّ جيل، يملك في ذاته، وعدًا يمكن أن يطلق طاقاتٍ جديدة عقليّة، وفكريّة، وثقافيّة، وروحيّة”[195].
197.إن السياسة، إذا نظرنا إليها بهذه الطريقة، هي أكثر نبلًا من المظهر، من التسويق، من الأشكال المختلفة للتركيب الإعلامي. الشيء الوحيد الذي يتوصّل كلُّ هذا لأن يزرعه، هو الانقسام والعداء والشكّ القاتم غير القادر على الدعوة إلى مشروع مشترك. أمّا الأسئلة، حين نفكّر في المستقبل، فيجب أن تكون في بعض الأيام: “لماذا؟ إلى أين أتوجّه حقًا؟”. لأن السؤال، بعد بضع سنوات من التفكير في ماضينا، لن يكون: “كم شخص وافق عليّ، وكم عدد الذين صوّتوا لي، وكم عدد الذين لديهم صورة إيجابية عني؟”. كلا، فالأسئلة التي هي ربما مؤلمة، سوف تكون: “ما مقدار المحبّة التي أضفتُها إلى عملي، وكيف جعلتُ الشعب يتقدّم، وأيّ بصمة تركتُ في حياة المجتمع، وما هي الروابط الحقيقية التي بنيتُها، وما هي القوى الإيجابية التي أطلقتُها، وما مقدار السلام الاجتماعي الذي زرعتُه، وكيف أثّرت في المكان الذي ائتُمِنتُ عليه؟”.
198.يمكننا أن نلخّص فعل التقارب، والتعبير، والاصغاء، والنظر، ومعرفة بعضنا البعض، ومحاولة فهم بعضنا البعض، والبحث عن نقاط اتّصال، بفعل “حاور”. فنحن بحاجة إلى التحاور في سبيل أن نتلاقى ونساعد بعضنا البعض. ليس هناك حاجة لأن نقول ما هي فائدة الحوار. فبالنسبة لي يكفي أن أفكّر بما قد يكون عليه العالم دون ذاك التحاور الصبور الذي قام به العديد من الأشخاص الأسخياء الذين حافظوا على وحدة العائلات والجماعات. الحوار المستمرّ والشجاع لا ينتشر كخبرٍ مثل أخبار الخلافات والصراعات، ولكنه يساعد العالم، بكلّ تكتّم، على العيش بشكل أفضل، وأكثر ممّا يمكننا إدراكه.
الحوار الاجتماعي نحو ثقافة جديدة
199.يحاول البعضُ الهروبَ من الواقع عبر اللجوء إلى عوالم خاصّة، وآخرون يواجهونه بعنفٍ مدمّر، لكن “بين اللامبالاة الأنانية والاعتراض العنيف، هناك دائمًا خيار ممكن: وهو الحوار. الحوار بين الأجيال، والحوار بين الشعب، لأننا جميعًا “شعب“، والقدرة على العطاء والنوال، مع الانفتاح الدائم على الحقيقة. كلّ بلد ينمو عندما تتفاعل ثرواتُه الثقافية المختلفة بشكل بنّاء: الثقافة الشعبية، والثقافة الجامعيّة، والثقافة الخاصّة بالشباب، والثقافة الفنّية، والثقافة التكنولوجية، والثقافة الاقتصادية، وثقافة الأسرة، وثقافة وسائل الإعلام”[196].
200.غالبًا ما نخلط بين الحوار وشيء مختلف تمامًا: وهو تبادلٌ محموم للآراء على شبكات التواصل الاجتماعي يرتكز، مرّات عديدة، على معلومات إعلامية لا تتسّم دومًا بالمصداقية. إنها مجرّد مونولوجات تجري بالتوازي، وربما تفرض نفسها على انتباه الآخرين بنبراتها العالية أو العدوانية. ولكن المونولوجات لا تُلزِم أحدًا، حتى أن محتواها غالبًا ما يكون انتهازيًا ومتناقضًا.
201.فهذا النشر المدوي للحقائق والمطالبات في وسائل الإعلام، غالبًا ما يُغلِق في الواقع، باب الحوار، لأنه يسمح لكلّ فرد بحفظ أفكاره واهتماماته وخياراته على حالها، ودون أدنى تغيير، بحجّة أخطاء الآخرين. وتسودُ عادةُ الاستبعادِ السريع للخصم، عبر استخدام الألقاب المهينة، بدلًا من مواجهة حوار مفتوح ومحترِم، يحاولون به الوصول إلى خلاصة تتخطّى الخلاف. والأسوأ هو أن هذه اللغة، الشائعة في السياق الإعلامي لحملة سياسية، أصبحت عامّة، بحيث يستَخدمها الجميع يوميًا. وغالبًا ما تتلاعب بالنقاش مصالحُ معيّنة لها سلطةٌ أكبر، وتحاول بطريقة غير نزيهة إمالة الرأي العام لصالحها. أنا لا أشير فقط إلى الحكومات الحاليّة، لأن هذه السلطة الاستغلالية قد تكون اقتصاديّة أو سياسيّة أو إعلاميّة أو دينيّة أو من أيّ نوع. وقد يبرّرونها أحيانًا أو يجدوا عذرًا لها عندما تستجيب ديناميكيّتُها لمصالحهم الاقتصادية أو الأيديولوجية، ولكنها، عاجلًا أم آجلًا، تنقلب ضدّ تلك المصالح نفسها.
202.إن الافتقار إلى الحوار يعني أن أيًّا من القطاعات لا يهتمّ بالخير العام، إنما باكتساب الفوائد التي توفّرها له السلطة، أو في أفضل الأحوال، بفرض طريقة تفكيره. وهكذا يصبح الحوار مجرّد مفاوضات حتى يتمكّن كلّ فريق من الاستيلاء على أكبر قدر من السلطة أو الفوائد الممكنة، وليس بحثًا مشتركًا ينتج عنه الخير العام. أمّا أبطال المستقبل فهم الذين سوف يعرفون كيف يحطّمون هذا المنطق السقيم ويقرّرون أن يدعموا باحترام كلمة محمّلة بالحقيقة، فيما وراء المنافع الشخصية. نسأل الله أن تلوح بصمتٍ بوادر ظهور هؤلاء الأبطال في قلب مجتمعنا.
203.إن الحوار الاجتماعي الحقيقي يفترض القدرة على احترام وجهة نظر الآخر، وقبول احتمال احتوائها على بعض المعتقدات أو المصالح المشروعة. فلدى الآخر، انطلاقًا من هويّته، شيئًا يساهم به، ومن المُستَحبّ أن يعمِّق موقفه ويُفصِح عنه بحيث يزداد الحوارُ المفتوح اكتمالًا. صحيح أنه عندما يكون شخص أو مجموعة متوائمين ما يفكرّون به، ويلتزمون بشدّة بالقيم والمعتقدات، ويطوّرون فكرهم، فهذا يفيد المجتمع بطريقة أو بأخرى. لكن هذا لا يحدث إلّا إذا تحقّق هذا التطوّر ضمن الحوار والانفتاح على الآخرين. لأنه “بروح حقيقية من الحوار، تتغذّى القدرة على فهم معنى ما يقوله الآخر وما يفعله، حتى لو أننا لا نستطيع أن نتبنّاه كقناعتنا الخاصّة. ويصبح من الممكن بالتالي أن نكون صادقين، وألّا نُخفي ما نؤمن به، وأن نواصل التحاور والبحث عن نقاط اتّصال، ونواصل قبل كلّ شيء العمل والكفاح”[197]. وإذا كان الحوار المفتوح يفسح المجال حقًا للجميع ولا يتلاعب بالمعلومات أو يخفيها، فهو حافز دائم يتيح لنا الوصول إلى الحقيقة بطريقة مناسبة، أو على الأقل التعبير عنها بشكل أفضل. ويمنع القطاعات المختلفة -المطمئنّة والمكتفية ذاتيا- من التمسّك بطريقة رؤيتها للأشياء وبمصالحها المحدودة. نحن نعتقد أن “الاختلافات هي خلّاقة، إنها تخلق التوتّر، وتَقَدّمُ البشرية يكمنُ في مواجهة التوتّر”[198].
204.هناك قناعة اليوم بأن التواصل بين التخصّصات، إضافة إلى التطوّرات العلميّة المتخصّصة، هو ضروريّ، لأن الواقع واحد، على الرغم من أنه يمكن تناوله من وجهات نظر مختلفة ومنهجيّات مختلفة. لا ينبغي التغاضي عن خطر اعتبار التقدّم العلميّ على أنه النهج الوحيد الممكن لفهم بعض جوانب الحياة والمجتمع والعالم. ومن ناحية أخرى، فإن الباحث الذي يتقدّم بكفاءة في تحليله، وهو على استعداد أيضًا للتعرّف على أبعاد أخرى للواقع الذي يبحث فيه، بفضل عمل العلوم والمعرفة الأخرى، ينفتح على معرفة الواقع بطريقة أكثر كمالًا واكتمالًا.
205.في هذا العالم المُعَولَم “تستطيع وسائل الإعلام أن تساعدنا على الشعور بأننا أقرب إلى بعضنا البعض، وعلى إدراك حسّ متجدّد بوحدة الأسرة البشريّة، يشجّعنا على التضامن والالتزام الجادّ بحياة لائقة للجميع. […] يمكنها مساعدتنا في هذه المهمّة، خاصّة اليوم، الذي وصلت فيه شبكات التواصل البشري إلى مستويات غير مسبوقة من التطوّر. على وجه الخصوص، يمكن للإنترنت أن يوفّر فرصًا أكبر للقاء والتضامن بين الجميع؛ وهذا أمر صالح، إنه هبة من الله”[199]. لكن من الضروريّ أن نتحقّق باستمرار من أن أشكال التواصل الحالية تقودنا حقًّا إلى لقاءٍ سخيّ، وإلى البحث الصادق عن الحقيقة الكاملة، والخدمة، والتقرّب من الأخيرين، والالتزام ببناء الخير العام. في الوقت نفسه، كما علّم الأساقفة الأستراليون، “لا يمكننا قبول عالم رقميّ صُمِّمَ لاستغلال ضعفنا وإظهار أسوأ ما في الناس”[200].
206.النسبيّة ليست هي الحلّ. فإنها تتوّصل، تحت ستار تسامح مُفتَرَض، بأن تسهّل تفسير القيم الخُلُقيّة من قِبَل الأقوياء وفقًا لمصالحهم الراهنة. في نهاية المطاف “إن لم يكن هناك حقائق موضوعية ومبادئ ثابتة، تتخطّى إرضاء المشاريع الخاصّة والحاجات الفورية، […] لا نعتقد بأن البرامج السياسية أو قوّة القانون تكفي […] عندما يصيب الفساد الثقافة، وعندما نصبح غير قادرين على الاعتراف بأيّ حقيقة موضوعيّة أو بأيّ مبادئ صالحة على المستوى العالمي، فإن القوانين ستُعَدُّ شروطًا مفروضة وتعسّفية وعقبات يجب تجنّبها”[201].
207.هل من الممكن إيلاء الانتباه إلى الحقيقة، والبحث عن الحقيقة التي تستجيب لواقعنا العميق؟ وما هو القانون دون القناعة، التي تَوَصَّلنا إليها بعد مسيرة طويلة من التأمّل والحكمة، أن كلّ إنسان هو مقدّس ومَصون؟ فلكيّ يكون هناك مستقبلٌ للمجتمع، يجب أن يكون هذا المجتمع قد نمّى احترامًا صادقًا لحقيقة كرامة الإنسان، التي لها ننحني. وعندها لن نتجنّب قتل شخص ما لمجرّد تحاشِ السخرية الاجتماعية وثقل القانون، وإنّما عن قناعة. إنها حقيقة مطلقة ندركها بعقلنا ونقبلها بضميرنا. فالمجتمع هو نبيل ومحترم أيضًا لأنه ينمّي البحث عن الحقيقة ويتمسّك بأهمّ الحقائق الأساسية.
208.علينا أن نتدرّب على كشف الطرق المختلفة للتلاعب بالحقيقة وتشويهها وإخفائها في المجالين العام والخاصّ. وما نسمّيه “الحقيقة” لا يقتصر على الحقائق التي تنشرها الصحافة. إنه قبل كلّ شيء البحث عن الأسس المتينة التي تستند إليها خياراتنا وكذلك قوانيننا. وهذا يعني أن نَقبلَ قدرةَ الذكاء البشري على تخطّي المصالح الراهنة واستيعاب بعض الحقائق التي لا تتغيّر، والتي كانت صحيحة قبلنا وستظلّ صحيحة على الدوام. فالعقل، عندما يتفحّص الطبيعة البشرية، يكتشف قيمًا عالميّة لأنها مشتقّة من هذه الطبيعة.
209.بخلاف ذلك، ألا يستطيع الأقوياء في السلطة أن ينكروا حقوق الإنسان الأساسية التي نعتبرها اليوم مُطلَقَة، بعد أن يتوصّلوا إلى نيل “إجماع” شعب نائم وخائف؟ لدينا اليوم أدلّة كافية على كلّ الخير الذي نستطيع تحقيقه، ولكن في الوقت نفسه علينا أن نعترف بالقدرة على التدمير التي تسكننا. ولن يكفي كذلك مجرّد الإجماع بين الشعوب المختلفة، الذي يمكن أيضًا التلاعب به. أليست الفردية اللامبالية والقاسية التي أصابتنا، نتيجة الكسل في البحث عن القيم العليا التي تتخطّى الاحتياجات الظرفية؟ بالإضافة إلى النسبية هناك أيضًا خطر في أن يتوصّل الأقوى أو الأكثر مهارة بأن يفرض حقيقةً مفترضة. من ناحية أخرى، إن “الرسوم الخُلُقيّة التي تُنهي عن الفعل الذي هو بحدّ ذاته شرّ، لا تفسح في المجال لأيّ تمييز ولا استثناء. فلا فرق في أن يكون الإنسان سيّد العالم أو آخر فقراء الأرض: في موضوع الإلزامات الخُلُقيّة الجميع هم سواءٌ”[202].
210.ما يحدث لنا اليوم، ويجرّنا إلى منطق فاسد وفارغ، هو أن هناك تماثل للأخلاقية والسياسة مع الفيزيائيّة [السبب والنتيجة]. لا يوجد خيرٌ وشرّ في حدّ ذاته، إنما فقط اعتبارٌ للجوانب الإيجابية والسلبية. وتنحية العقل الخُلُقي هذه تقود إلى عدم قدرة القانون على الاستناد إلى مفهوم أساسيّ للعدالة، بل يتحوّل إلى مرآة للأفكار السائدة. وهنا ندخل في انحطاط: وهو أن تقودنا “مسيرةٌ متدنّية” بواسطة إجماع سطحي وتفاوضي. فينتصر بهذه الطريقة في النهاية، منطق القوّة.
211.إن الحوار، في مجتمعٍ تَعدُّدي، هو الطريقة الأنسب للتعرّف على ما يجب تأكيده واحترامه على الدوام، والذي يتخطّى الإجماع الظرفي. نحن نتحدّث عن حوار يتطلّب أن تغنيه وتنوّره أسبابٌ، وحججٌ عقلانيّة، ووجهاتُ نظر متنوّعة، ومساهمات من مختلف المعارف ووجهات النظر، والذي لا يستبعد القناعة بأنه من الممكن الوصول إلى بعض الحقائق الأوّلية التي يجب تأييدها الآن وعلى الدوام. إن قبول وجود بعض القيم الدائمة، على الرغم من أنه ليس من السهل دائمًا التعرّف عليها، يمنح الأخلاقية الاجتماعية متانةً واستقرارًا. حتى عندما ندركها ونتبّناها بفضل الحوار والإجماع، نرى أن هذه القيم الأساسيّة تتجاوز كلّ توافق في الآراء، ونعترف بها قيمًا أسمى من سياقاتنا ولا يمكن التفاوض بشأنها أبدًا. قد ينمو فهمنا لمعناها ونطاقها -والإجماع بهذا المعنى هو واقع ديناميكي- ولكنها تُعَدُّ في حدّ ذاتها على أنها مستقرّة نظرًا لمعناها الجوهريّ.
212.إذا كان هناك شيء يناسب حُسنَ سير المجتمع على الدوام، أليس بفضل وجود حقيقة دائمة يمكن للذكاء أن يدركها؟ فهناك، في واقع الإنسان والمجتمع ذاته، بطبيعته الحميمة، سلسلةٌ من البنى الأساسية التي تساند تطوّره وبقاءه. وتشتقّ من هناك متطلّبات معيّنة يمكن اكتشافها بفضل الحوار، على الرغم من أنها ليست نتيجة الإجماع بالتمام. إن حاجة الحياة الاجتماعية ذاتها إلى بعض المعايير الأساسية هي مؤشّر خارجي على أنها شيء جيّد في حدّ ذاته. بالتالي، ليس من الضروري أن تتعارض النفعيّةُ الاجتماعية والإجماعُ، مع واقع حقيقة موضوعيّة. فباستطاعة هذه الأمور الثلاث أن تجتمع في وئام عندما يجرؤ الناس، من خلال الحوار، على الوصول إلى جوهر قضيّة ما.
213.إذا كان من الواجب أن نحترم كرامة الآخرين في أيّ ظرف كان، فذلك لأننا لم نخترع كرامة الآخرين أو لم نفترضها، بل لأن فيها بالفعل قيمة تتخطّى الأشياء المادّية والظروف، وتفرض معاملتهم بطريقة مختلفة. أن يكون لكلّ إنسان كرامة مطلقة هي حقيقة تستجيب للطبيعة البشرية أبعد من أي تغيير ثقافي. ولذا فإن الإنسان يتمتّع بالكرامة نفسها غير القابلة للتصرّف في أيّ وقت من التاريخ ولا يمكن لأيّ شخص أن يشعر بأن الظروف تسمح له بإنكار هذه القناعة أو بعدم التصرّف وفقًا لها. يستطيع الذكاء بالتالي أن يدقّق في حقيقة الأشياء، من خلال التفكير، والاختبار والحوار، كي يتعرّف في تلك الحقيقة التي تتجاوزه على أساس بعض المتطلّبات الخُلُقية العالمية.
214.بالنسبة إلى اللاأدريين (agnostiques)، قد يبدو هذا الأساس كافيًا لمنح صلاحية عالمية ثابتة ومستقرّة للمبادئ الخُلُقيّة الأساسيّة والمطلقة، فتضع حدًّا لمزيد من الكوارث. أمّا بالنسبة للمؤمنين، فهذه الطبيعة البشرية، التي هي مصدر المبادئ الأخلاقية، قد خلقها الله الذي يعطي في النهاية أساسًا متينًا لتلك المبادئ[203]. هذا لا يقيم ثباتيّة (fixisme) أخلاقية أو يؤدّي إلى فرض أيّ نظام خُلُقيّ، لأن المبادئ الخلقيّة الأوّلية والصالحة عالميًا تستطيع أن تؤدّي إلى معايير عملية مختلفة. ولذا فهناك دائمًا مجالٌ للحوار.
215.”الحياة هي فنّ اللقاء، على الرغم من وجود الكثير من الخلافات في الحياة”[204]. لقد دعوتُ مرارًا وتكرارًا إلى تنمية ثقافة اللقاء، ثقافةٍ تتخطّى الجدليّات التي تقود إلى المواجهات. إنه أسلوب حياة يتوق إلى إنشاء هذا الواقع المتعدّد الوجوه، ذات الأوجه الكثيرة والجوانب الكثيرة ولكنها تشكّل كلّها وَحدة محمّلة بفروق دقيقة، لأن “الكلّ أكثر من الجزء”[205]. وهذا الواقع المتعدّد الوجوه يمثّل مجتمعٌ تتعايش فيه الاختلافات وهي تتكامل، وتُغني وتُنير بعضها البعض، على الرغم من أن هذا يتضمّن المناقشات والحذر. يمكننا في الواقع أن نتعلّم من الجميع، فلا أحد عديم الفائدة، ولا أحد يمكن الاستغناء عنه. وهذا يعني أن نشمل الضواحي. فكلّ من يسكن الضواحي لديه وجهة نظر أخرى، ويرى جوانب من الواقع لا نراها من مراكز القوّة حيث تُتّخذ القرارات الحاسمة.
216.كلمة “ثقافة” تشير إلى شيء دَخَل في أعماق الشعب، في أعمق قناعاتهم وأسلوب حياتهم. إذا تحدّثنا عن “ثقافة” في الشعب، فهذا أكثر من مجرّد فكرة أو من فكرة مجرّدة. فهي تشمل التطلعات والحماس، أي أسلوب الحياة الذي يميّز تلك المجموعة البشرية. لذا، فإن الحديث عن “ثقافة اللقاء” يعني أننا باعتبارنا شعب، نتشوّق للتلاقي، والبحث عن نقاط اتّصال، وبناء الجسور، والتحضير لمشاريع تشمل الجميع. وقد تحوّل هذا إلى طموح وأسلوب حياة. وموضوع هذه الثقافة هو الشعب وليس قطاع المجتمع الذي يسعى لتهدئة البقية عبر وسائط مهنية وإعلامية.
217.السلام الاجتماعي شاقّ، وهو عمل حرفيّ. وكان من الأسهل احتواء الحرّيات والاختلافات بقليل من الفطنة والوسائط. لكن ذلك السلام سوف يكون سطحيًا وهشًا، وليس ثمرة ثقافة لقاء تدعمه. إنّ إدماج الآخر المختلف هو عملية صعبة وبطيئة، رغم أنه الضمان لسلام حقيقي ومتين. ولا يتحقّق ذلك من خلال الجمعِ بين أشخاصٍ “أنقياء” فقط، لأنه “حتى الأشخاص الذين يمكن انتقادهم بسبب أخطائهم، لديهم ما يُسهِمون به ويجب ألّا يضيع”[206]. كما أنه لا يتألّف من سلام ينشأ عن إسكات المطالب الاجتماعية أو منعها من “إحداث ضجيج”، لأنه ليس “تفاهمًا بيروقراطيًّا أو سلامًا عابرًا لصالح أقلّية سعيدة”[207]. ما هو مهمّ، إنما هو إنشاء عمليات تقود إلى اللقاء، عمليات تبني الشعب الذي يعرف كيف يجمع بين الاختلافات. فلنُلبِس أبناءَنا أسلحةَ الحوار! ولنعلّمهم الجهاد الحسن، جهاد اللقاء!
218.هذا يعني القدرة المعتادة على الاعتراف بحقّ الآخر في أن يكون على طبيعته وأن يكون مختلفًا. وانطلاقًا من هذا الاعتراف الذي يتحوّل إلى ثقافة، يصبح من الممكن إنشاء ميثاق اجتماعي. بدون هذا الاعتراف، تنشأ طرق غير ملحوظة تسعى إلى جعل الآخر يفقد كلّ معناه، ويصبح دون أهمّية، ولا يُعترف بأي قيمة له في المجتمع. يختبئ عادة وراء رفض بعض أشكال العنف المرئية، عنفٌ آخر أكثر مكرًا: ذلك الذي يخفيه أولئك الذين يحتقرون الشخص المختلف، خاصّة عندما تضرّ مطالبُه بمصالحهم الخاصّة بطريقة ما.
219.أمّا مطالبةُ قطاعٍ من المجتمع بالاستمتاع بكلّ ما يقدّمه العالم، كما لو كان الفقراء غير موجودين، فسوف يكون لها عواقبها في وقتها. لأن تجاهل وجود الآخرين وحقوقهم سوف يؤدّي عاجلاً أم آجلاً إلى نوع من العنف، وغالبًا ما يكون غير متوقّع. وقد يبقى الحلمُ بالحرّية والمساواة والأخوّة على مستوى الشكليّات، لأنه، في الواقع، ليس ممكنًا للجميع. لذلك، فالأمر لا يتعلّق فقط بالبحث عن لقاء بين الذين يتولّون أشكالًا مختلفة من السلطة الاقتصادية أو السياسية أو الأكاديمية. لأن اللقاء الاجتماعي الحقيقي يجمع في حوار حقيقي الأشكالَ الثقافية الكبرى التي تمثّل مُعظَم السكّان. لكن غالبًا ما تعجز القطاعات الفقيرة عن تبنّي المقترحات الجيّدة لأنها تُقدَّم بحِلّة ثقافيّة غير مناسبة لهذه القطاعات ولا تشعر أنها تتماها معها. لذلك، يجب أن يكون الميثاق الاجتماعي الواقعي والشامل أيضًا “ميثاقًا ثقافيًا” يحترم ويتقبّل مختلف وجهات النظر في العالم، والثقافات وأنماط الحياة المتنوّعة التي تتعايش في المجتمع.
220.على سبيل المثال، إن الشعوب الأصلية ليست ضدّ التقدّم، حتى لو أنها تملك فكرةً مختلفة عن التقدّم، غالبًا ما تكون أكثر إنسانية من التي تملكها الثقافة الحديثة عند الشعوب المتقدّمة. فهذه الثقافة ليست موجّهة لصالح أصحاب السلطة، الذين يحتاجون لخلقِ نوع من الفردوس الأبديّ على الأرض. إن عدم التسامح والازدراء بالثقافات الشعبية للسكان الأصليين هو شكل حقيقي من أشكال العنف، يميّز “علماء الأخلاق” الذين لا يعرفون الصلاح، ويعيشون مُصدِرينَ الأحكام على الآخرين. لكن من المستحيل تحقيق تغيير حقيقي وعميق ومستقرّ إذا لم يتكوّن هذا التغيير من ثقافات مختلفة، وخاصّة الفقيرة منها. أمّا الميثاق الثقافي فيعني التخلّي عن فهم هويّة مكان ما باعتباره متجانس بالكامل، ويتطلّب أن نحترم التنوّع، وأن نقدّم مسارات من المساندة والادماج الاجتماعي.
221.يتضمّن هذا الميثاق أيضًا قبول إمكانية التنازل عن شيء ما من أجل الخير العام. فلا أحد يستطيع أن يمتلك الحقيقة كاملة أو أن يُشبِع كلّ رغباته، لأن هذا المطلب سيؤدّي إلى الرغبة في تدمير الآخر وحرمانه من حقوقه. والبحث عن تسامح زائف يجب أن يفسح المجال لواقعيّة منفتحة على الحوار، أمام الذين يعتقدون أنه يجب أن يكونوا مخلصين لمبادئهم، ولكنهم يعترفون أن للآخر أيضًا حقّ في السعي لأن يكون مخلصًا لمبادئه. إنه الاعتراف الحقيقيّ بالآخر، الذي بفضلِ المحبّة وحدها يصبح ممكنًا، والذي يعني أن نضع أنفسنا مكانَ الآخر كي نكتشف ما هو أصيل في دوافعه ومصالحه أو ما يمكن فهمه على الأقلّ.
222.إن الفرديّة ذات النزعة الاستهلاكية تسبّب الكثير من الانتهاكات. فالآخر يصبح مجرّد عقبات أمام الطمأنينة الشخصيّة المريحة. وهذا يقود إلى معاملتهم كأنهم مصدر إزعاج فتزداد العدوانية. ثمّ يتفاقم الأمر ويصل إلى درجة حَرِجة في أوقات الأزمات، وفي الأوضاع الكارثية، وفي اللحظات الصعبة حيث تظهر روح الـ “لِيَنفُذ كلٌّ بجلده”. ومع ذلك، لا يزال من الممكن اختيار اللطف. هناك أشخاص يختارون اللطف ويصبحون مثل النجوم في الظلام.
223.قد ذكر القدّيس بولس ثمرةً من ثمار الروح القدس مستخدمًا الكلمة اليونانية crestotejß –chrestotes (غل 5، 22)، والتي تعبّر عن حالة ذهنية غير مقيتة وفظّة وصعبة. فهي تشير إلى شيء لطيف، يساند ويريح. فالشخص الذي نال هذه الثمرة يساعد الآخرين على تخفيف حِملِ حياتهم، خاصّةً عندما يتحمّلون أعباء مشاكلهم وأزماتهم وألمهم. إنها طريقة في معاملة الآخرين تتجلّى بأساليب مختلفة: لطفٌ في الأسلوب، وحرصٌ على عدم جرح الآخرين بالكلام أو التصرّف، ومحاولة للتخفيف من أعباء الآخرين. وتتضمّن “قول كلمات تشجيع، تقوّي، وتعزّي، وتحفّز”، بدلاً من أن “تذلّ، أو تُحزِن، أو تُغضِب، أو تحتقر”[208].
224.اللطف هو تحرّر مِن القسوة التي تخترق أحيانًا العلاقات الإنسانية، ومِن القلق الذي يمنعنا من التفكير في الآخرين، ومِن الأمور الملحّة المشتّتة التي تتجاهل حقّ الآخرين أيضًا في أن يكونوا سعداء. نادرًا ما يتوفّر لنا الوقت والطاقة اليوم حتى نتوقّف كي نعامل الآخرين بشكل جيّد، ونقول “اسمح لي”، أو “عفوًا”، أو “شكرًا”. ولكن، مِن وقت لآخر، تظهر معجزةُ إنسان لطيف، يضع جانبًا مخاوفه وأموره الملّحة كي يولي اهتمامه، ويقدّم ابتسامته، ويقول كلمة مشجّعة، حتى يفسح المجال للإصغاء وسط الكثير من اللامبالاة. هذا الجهد، الذي نعيشه كلّ يوم، هو قادر على خلق ذلك التعايش السليم الذي يتغلّب على سوء الفهم ويتدارك النزاعات. فاختيار اللطف ليس تفصيلًا بسيطًا أو موقفًا سطحيًا أو برجوازيًا. ونظرًا لأنه يفترض التقدير والاحترام، فإنه، عندما يتحوّل إلى ثقافة في مجتمع ما، يغيّر بشكل عميق نمطَ الحياة، والعلاقات الاجتماعية، وطريقة مناقشة الأفكار ومواجهتها. إنه يسهّل السعي إلى الإجماع، ويفتحُ الطرقَ حيث يدمرُّ السخطُ كلَّ الجسور.
225.هناك حاجة، في أجزاء كثيرة من العالم، إلى مسارات سلام تقود إلى التئام الجروح، وهناك حاجة إلى صانعي سلام، مستعدّين للشروع في عمليّات الشفاء والتلاقي، ببراعة وجرأة.
بداية جديدة انطلاقًا من الحقيقة
226.إن التلاقي لا يعني العودة إلى ما قبل الصراعات. فقد تغيّرنا جميعًا بمرور الوقت، لقد غيَّرَنا الألم والمواجهات. وكذلك، لم يعد هناك مكان للدبلوماسيّة الفارغة، والتمويه، والخِطَب المزدوجة، والتستّر، ولا للسلوكيّات الحسنة ظاهريًّا التي تخفي الواقع. فالذين تواجَهوا بقوّة فيما بينهم يتحدّثون انطلاقًا من الحقيقة، الواضحة والمجرّدة. عليهم أن يتعلّموا كيف ينمّون ذاكرة تساعدهم على التوبة، قادرة على تحمّل مسؤولية الماضي كي يحرّروا المستقبلَ من أيّ استياء، أو ارتباك، أو نظرة سلبية. فانطلاقًا من الحقيقة التاريخية للحقائق وحدها سيتمكّنون من بذل جهد مستمرّ وطويل في فهم بعضهم البعض ومحاولة وضع تركيب جديد لصالح الجميع. الحقيقة هي أن “عمليّة السلام هي التزام يدوم مع مرور الوقت. إنه عمل صبور من البحث عن الحقيقة والعدالة؛ عمل يكرّم ذكرى الضحايا ويفتح، خطوة بعد خطوة، على رجاء مشترك، أقوى من الانتقام”[209]. كما قال أساقفة الكونغو بشأن صراع متكرّر، “إن اتّفاقيّات السلام على الورق لا تكفي أبدًا. ومن الضروريّ المضيّ قدمًا، مع المطالبة بالحقيقة حول أسباب هذه الأزمة المتكرّرة. لأنه يحقّ للشعب أن يعرف ما حدث”[210].
227.في الواقع، إن “الحقيقة هي رفيقة ملازمة للعدل والرحمة. ولا غنى عن الثلاثة معًا لبناء السلام؛ ومن ناحية أخرى، يمنع كلّ منها الآخرين من أن يصيبهم الفساد. […] فيجب على الحقيقة ألّا تقود إلى الانتقام بل إلى المصالحة والتسامح. الحقيقة هي أيضًا إطلاع العائلات التي مزّقها الحزن على ما حدث لأقاربهم المفقودين. الحقيقة هي الاعتراف بما حدث للقُصَّر الذين جنّدتهم الجهات الفاعلة التي تلجأ للعنف. الحقيقة هي الاعتراف بألم النساء ضحايا العنف وسوء المعاملة. […] كلّ عنف يُرتكب ضدّ إنسان هو جرح في جسد البشرية؛ كلّ موت عنيف ينتقص منّا كأشخاص. […] العنفُ يولّد العنفَ، والكراهيةُ تولّد المزيدَ من الكراهية، والموتُ المزيدَ من الموت. علينا كسر هذه السلسلة التي تبدو كأنها حتميّة”[211].
228.إنّ الطريق إلى السلام لا يستلزم العمل على تجانس المجتمع، لكنه يسمح لنا طبعًا بالعمل معًا. فهو يستطيع أن يجمع الكثيرين في السعي وراء بحثٍ مشترك يستفيد منه الجميع. وإزاء هدف مشترك معيّن، يمكن المساهمة بمقترحات تقنيّة وخبرات مختلفة، والعمل من أجل الخير العام. من الضروري من ثمّ أن تُحدَّد، بشكل جيّد، المشاكلُ التي يمرّ بها المجتمع، من أجل أن نقبل وجود طرق مختلفة للنظر في الصعوبات وحلّها. فالسبيل إلى تعايشٍ أفضل يعني دائمًا الاعتراف بإمكانية أن يأتي الآخر بمنظور شرعيّ، على الأقلّ جزئيًا، أي بشيء يمكن قبوله، حتى إذا كان قد ارتكب خطأ أو تصرّف بشكل سيّء. لأنّه “يجب ألّا نسجن الآخر في أقواله أو أفعاله، ولكن يجب أن نعتبره وفقًا للوعد الذي يحمله في ذاته”[212]، الوعد الذي يترك دومًا بصيص أمل.
229.إنّ المصالحة الحقيقية، كما علّم أساقفة جنوب إفريقيا، تتحقّق بشكل استباقي، “من خلال تكوين مجتمع جديد قائم على خدمة الآخرين، وليس على الرغبة في الهيمنة؛ مجتمع يقوم على مشاركة ما نمتلكه مع الآخرين، بدلًا من أن يناضل كلّ فرد بطريقة أنانيّة في سبيل الحصول على أكبر ثروة ممكنة؛ مجتمع تكون فيه قيمة التواجد معًا كبشر أكثر أهميّة بالتأكيد من أيّ مجموعة ثانوية، سواء كانت الأسرة أو الأمّة أو العرق أو الثقافة”[213]. وأشار أساقفة كوريا الجنوبية إلى أنّ السلام الحقيقي “لا يمكن تحقيقه إلّا عندما نكافح من أجل العدالة من خلال الحوار والسعي لتحقيق المصالحة والتنمية المتبادلة”[214].
230.أمّا الجهد الشاق للتغلّب على ما يفرّق بيننا دون أن يفقد كلّ منّا هويّته، فيفترض أنه لا يزال عند الجميع شعورٌ أساسيّ بالانتماء. لأنّ “مجتمعنا ينتصر عندما يشعر كلّ فرد، وكل مجموعة اجتماعية، كأنه في بيته حقًا. في الأسرة، يشعر الآباء والأجداد والأطفال أنهم في منزلهم؛ ما من أحدٍ مُستَبعَد. إذا واجه أحدهم صعوبة، حتى وإن كانت خطيرة، حتى لو كان هو سببها، يأتي الآخرون لمساعدته، ويدعمونه؛ ألمه هو ألم الجميع. […] في العائلات، يساهم الجميع في المشروع المشترك، ويعمل الجميع من أجل الخير المشترك، ولكن دون “إلغاء” الفرد؛ بل على العكس، فهم يدعمونه ويشجعونه. ربما يتشاجرون، لكن هناك شيء لا يتغيّر: ذاك الرباط العائلي. فالخلافات العائلية تصبح مِن بعدُ مصالحات. الجميعُ يتحمّل أفراح وأحزان كلّ فرد منها. هذه، أجَل، هي العائلة! إذا تمكّنا من النظر إلى الخصم السياسي وإلى الجار كما ننظر إلى أبنائنا أو زوجاتنا أو أزواجنا أو آبائنا أو أمهاتنا، فهذا أمر عظيم. هل نحبّ مجتمعنا أم أنه لا يزال شيئًا بعيدًا، شيئًا مجهولًا، لا يُشرِكنا، لا يؤثّر فينا، لا يُلزِمنا؟”[215].
231.غالبًا ما يكون هناك حاجة كبيرة إلى التفاوض، ومن ثمّ إلى تطوير إمكانيّات ملموسة للسلام. لكن العمليّات الفعّالة لتحقيق سلامٍ دائم هي قبل كلّ شيء تحوّلات حِرَفيّة تقوم بها الشعوب، حيث يستطيع كلّ إنسان أن يكون خميرةً فعّالةً عبر نمط حياته اليومي. فالتغييرات الكبيرة لا تُصنَع في المكاتب أو الشركات؛ لذلك “يلعب الجميع دورًا أساسيًا، في مشروع إبداعي واحد، بهدف كتابة صفحة جديدة من التاريخ، صفحة مليئة بالرجاء ومليئة بالسلام ومليئة بالمصالحة”[216]. هناك “هندسة” للسلام، تشترك فيها مختلف مؤسّسات المجتمع، كلّ حسب اختصاصها، ولكن هناك أيضًا “عمل حِرفَيّ” للسلام يُشرِكُنا جميعًا. لقد تعلّمنا من عمليّات السلام المختلفة التي تمّت في أجزاء مختلفة من العالم “أنَّ سُبُل السلام وأولويّة العقل على الانتقام والتناغم الهشِّ بين السياسة والقانون لا يمكنها أن تتجنّب مسارات الناس. لا يكفي رسم الأُطر القانونيّة والاتفاقات المؤسساتيّة بين المجموعات السياسيّة أو الاقتصاديّة ذوي الإرادة الصالحة. […] من المهمّ على الدوام أن نُدخِل في عمليات السلام خبرةَ القطاعات التي غُيِّبَت في مناسبات عديدة، كي تترك الجماعاتُ بالتحديد صبغَتها على عمليّات الذاكرة الجماعيّة”[217].
232.ليس هناك “نقطة نهاية” في بناء السلام الاجتماعي في بلد ما، بل إنه “عمل متواصل وهو واجب لا يعرف الكلل ويتطلّب التزام الجميع. إنه عمل يقتضي منّا عدم توفير أيّ جهد من أجل بناء وحدة الأمم، على الرغم من العراقيل والاختلافات والمقاربات المتنوّعة حول طريقة التوصّل إلى التعايش السلميّ، والمثابرة على النضال من أجل تعزيز ثقافة اللقاء التي تستوجب أن نضع الشخص البشري وكرامته السامية واحترام الخير العام في محور كلّ نشاط سياسي، اجتماعي واقتصادي. ليكن هذا الجهد دافعًا كي نهرب مجددًا من أي ميلٍ إلى الانتقام والبحث عن المصالح الخاصّة والقريبة الأمد”[218]. أمّا المظاهرات العامة العنيفة، من جانب أو من آخر، فلا تساعد في إيجاد مَخرَج؛ لأننا قبل كلّ شيء، كما أشار أساقفة كولومبيا، عندما نشجّع “حشد القوى الشعبية، لا نرى دومًا بوضوح أسبابها وأهدافها، لأنّ هناك أشكال معيّنة من التلاعب السياسي، وتظهر أنها تُستَغلّ تأييدًا لمصالح خاصة”[219].
233.إنّ السعي وراء الصداقة الاجتماعية لا يعني فقط التقارب بين فئات اجتماعية تباعدت إثر فترات صراع في التاريخ، ولكن يعني أيضًا البحث عن تلاقٍ جديد مع أكثر القطاعات فقرًا وضعفًا. السلام “ليس مجرّد غياب الحرب ولكنه العمل الدؤوب –لا سيّما من قِبَلِ الذين يشغلون منصبًا ذات مسؤولية أكبر- على الاعتراف بالكرامة وضمانها وإعادة “بنائها” بشكل ملموس، والتي غالبًا ما ينساها إخوة لنا ويتجاهلونها، حتى يتمكّنوا من الشعور بأنهم أبطال مصير أمّتهم”[220].
234.لقد أهنّا الأخيرين في المجتمع، في كثير من الأحيان، بسبب تعميمات غير عادلة. وإذا كان الفقراء والمهملون قد تفاعلوا أحيانًا عبر مواقف تبدو غير اجتماعية، فمن المهمّ أن نفهم أنّ ردود الفعل هذه غالبًا ما تنتج عن تاريخ من الازدراء والنقص في الادماج الاجتماعي. كما علّم أساقفة أمريكا اللاتينية، “وحده القرب الذي يجعلنا أصدقاء، يسمح لنا بأن نقدّر بشكل عميق قيَم فقراء اليوم، وتطلّعاتهم المشروعة وطريقتهم الخاصّة في عيش الإيمان. يجب أن يقودنا خيار الفقراء إلى الصداقة معهم”[221].
235.على الذين يسعون إلى إحلال السلام في المجتمع ألّا ينسوا أنّ الظلم والافتقار إلى التنمية البشرية الشاملة لا يسمحان بتحقيقه. في الواقع، “دون تكافؤ الفرص، سوف تجد مختلفُ أشكال العدوان والحرب أرضًا خصبة ستؤدّي عاجلًا أم آجلًا إلى انفجارها. عندما يترك المجتمعُ -المحلّي أو الوطني أو العالمي- جزءًا من ذاته على الهامش، فلن تكون هناك برامج سياسية أو قوى أمن أو موارد استخباراتية يمكنها ضمان الهدوء إلى أجل غير مسمى”[222]. إذا كان يجب البدء من جديد، فسيكون دائمًا انطلاقًا من الأخيرين.
236.يفضّل البعضُ عدمَ الحديث عن المصالحة لأنهم يعتبرون أنّ الصراع والعنف والانقسامات هي جزء من الأداء الطبيعي للمجتمع، وفي الواقع، هناك صراعات على السلطة، ظاهرة أو غير ظاهرة، بين القطاعات المختلفة في أيّ مجموعة بشرية. ويدّعي آخرون أنّ إفساح المجال للمغفرة يعني التخلّي عن المكان الخاصّ بهم للآخرين كي يسيطروا على الموقف. ولذا فهم يعتبرون أنه من الأفضل الحفاظ على لعبة السلطة التي تسمح بالحفاظ على توازن القوى بين المجموعات المختلفة. ويعتقد البعض الآخر أنّ المصالحة هي من سِمات الضعفاء، وأنهم غير قادرين على الحوار من الأسفل، ولهذا يختارون الهروب من المشاكل عبر إخفاء المظالم. يختارون سلامًا ظاهريًّا لأنهم غير قادرين على مواجهة المشاكل.
237.إنّ المغفرة والمصالحة هما موضوعان ذات أهمّية كبيرة في المسيحية، كما وفي الديانات الأخرى عبر طرائق مختلفة. أمّا الخطر فيكمُنُ في عدم فهم المعتقدات بطريقة صحيحة وتقديمها بطريقة تؤدّي في نهاية المطاف إلى تغذية النزعة القدريّة أو الخمول أو الظلم، أو من ناحية أخرى لتغذية التعصّب والعنف.
238.لم يَدعُ يسوع المسيح أبدًا إلى إثارة العنف أو عدم التسامح. وقد أدان هو نفسه علنًا استخدامَ القوّة لفرض ذاته على الآخرين: “تَعلَمونَ أَنَّ رُؤَساءَ الأُمَمِ يَسودونَها، وأَنَّ أَكابِرَها يَتسلَّطونَ علَيها. فلا يَكُنْ هذا فيكُم” (متى 20، 25- 26). من ناحية أخرى، يطلبُ الإنجيلُ أن نغفر “سَبعينَ مَرَّةً سَبعَ مَرَّات” (متى 18، 22) ويعطي مثل الخادم الذي لا يرحم، الذي غُفِر له ولكنه لم يكن قادرًا على مسامحة الآخرين (را. متى 18، 23- 35).
239.إذا قرأنا نصوصًا أخرى من العهد الجديد، يمكننا أن نرى في الواقع أنّ الجماعات الأولى، المُحاطة بعالم وثني يفيض بالفساد والانحرافات، كانت تعيش شعورًا من الصبر والتسامح والتفهّم. وبعض النصوص واضحة جدًا في هذا الصدد: هناك دعوة إلى توبيخ المخالفين “بوداعة” (را. 2 طيم 2، 25). أو يُطلب ألّا “يَشتِموا أَحَدًا ولا يَكونوا مُخاصِمين، بل حلُمَاءَ يُظهِرونَ كُلَّ وَداعةٍ لِجَميعِ النَّاس. فإِنَّنا نَحنُ أَيضًا كُنَّا بِالأَمْسِ أَغبِياءَ عُصاةً ضالِّين” (طي 3، 2- 3). ويؤكّد سفر أعمال الرسل أنّ التلاميذ الذين مِن بينهم اضطهدتهم بعض السلطات “يَنالون حُظوَةً عِندَ الشَّعْبِ كُلِّه” (رسل 2، 47؛ را. 4، 21. 33؛ 5، 13).
240.ومع ذلك، عندما نفكّر في المغفرة والسلام والوئام الاجتماعي، نجد تعبيرًا استخدمه يسوع المسيح، وهو يفاجئنا: “لا تَظُنُّوا أَنِّي جِئتُ لأَحمِلَ السَّلامَ إِلى الأَرض، ما جِئتُ لأَحمِلَ سَلاماً بل سَيفاً: جِئْتُ لأُفِّرقَ بَينَ المَرءِ وأَبيه والبِنْتِ وأُمِّها، والكَنَّةِ وحَماتِها. فيكونُ أَعداءَ الإِنسانِ أَهلُ بَيتِه” (متى 10، 34- 36). من المهمّ أن نضعه في سياق الفصل الذي يتضمّنه. من الواضح أنّ الموضوع الذي نتحدّث عنه هو موضوع الأمانة للخيار الشخصي، ودون خجل، حتى لو كان ذلك مصدر صعوبات، وحتى لو عارض الأحبّاءُ هذا الخيار. لذلك، فهذا الكلام لا يدعو إلى افتعال الصراعات، ولكن ببساطة لتحمّل الصراع المحتوم، بحيث لا نتوصّل، بدافع الاحترام الإنساني، إلى خيانة الأمانة للخيار احترامًا لسلام عائلي أو اجتماعي مزعوم. قال القدّيس يوحنا بولس الثاني إنّ الكنيسة لا تنوي “إنزال الحرم بكلّ صراعٍ اجتماعي من أيّ شكل كان. فالكنيسة تدرك جيّدًا أنّ صراع المصالح بين أطراف اجتماعية مختلفة ظاهرة حتميّة في التاريخ، وأنّ على المسيحيّ، غالبًا، أن يقف منه موقفًا حازمًا ومتماسكّا”[223].
241.لا نعني بهذا أننا نقترح العفو بالتنازل عن حقوقنا أمام شخص قويّ فاسد، أو أمام مجرم أو أمام شخص يهين كرامتنا. نحن مدعوّون لأن نحبّ الجميع بلا استثناء، لكن أن نحبّ الظالم لا يعني أن نقبل استمراره في كونه ظالمًا، ولا أن نجعله يعتقد أن ما يفعله مقبول. بل على العكس، فإن أحببناه حقًّا فسوف نسعى بطرق مختلفة لأن نوقفه عن ظُلمِه، وننتزع منه تلك السلطة التي لا يعرف كيف يستخدمها والتي تشوّهه كإنسان. فالمغفرة لا تعني السماح لهم بمواصلة الدوس على كرامتهم الشخصية وعلى كرامة الآخرين، أو السماح لمجرم بالاستمرار في الشرّ. على من يعاني من الظلم أن يدافع بقوّة عن حقوقه وحقوق عائلته، لا سيّما أنه عليه الحفاظ على الكرامة التي مُنِحَت له، وهي كرامة يحبّها الله. فإذا كان أحد المجرمين قد أضرّ بي أو أضرّ بأحد أحبّائي، فلا أحد يمنعني من المطالبة بالعدالة وبأن أسهر على ألّا يضرّ بي هذا الشخصُ -أو أيّ شخص آخر- مرّة أخرى أو يُلحِقَ الأذى بالآخرين. الأمر متروك لي، والمغفرة لا تُبطِل هذه الحاجة، بل تستوجبها.
242.المهمّ هو ألّا نقوم بذلك بهدف تغذية الغضب الذي يؤذي روحنا وروح شعبنا، أو بسبب الحاجة غير السليمة إلى تدمير الآخر عبر إطلاق سلسلة من الثأر. لا أحد يحقّق السلام الداخلي أو يتصالح مع الحياة بهذه الطريقة. الحقيقة هي أنه “لا يوجد مستقبل لأية عائلة، ولا أية مجموعة من الأقرباء، ولا أية مجموعة عرقية، ولا حتى أيّ بلد، إذا كان الدافع الذي يوحّدهم، ويجمعهم ويغطّي الاختلافات، هو الانتقام والكراهية. لا يمكننا أن نتّفق ونتّحد على الانتقام، وأن نصنع مع الشخص العنيف ما صنَعه هو معنا، ونخطّط لفرص انتقام تحت أشكال قانونية ظاهريًّا”[224]. ومن ثمّ لا نربح شيئًا بهذه الطريقة ونخسر كلّ شيء على المدى الطويل.
243.صحيح أنه “ليس من السهل التغلّب على ما يخلّفه الصراع من ظلم وعداء وانعدام الثقة. ولا يمكننا تحقيق ذلك إلّا من خلال محاربة الشرّ بالخير (را. روم 12، 21) وعبر تنمية الفضائل التي تفضّل المصالحة والتضامن والسلام”[225]. وبهذه الطريقة، “من ينمّي الصلاح في نفسه ينال في المقابل ضميرًا نقيًّا، وفَرِحًا عميقًا، حتى وسط الصعوبات وسوء الفهم. حتى إزاء الإساءات التي تصيبه، فإنّ الرفق ليس ضعفًا، بل قوّة حقيقية قادرة على التخلّي عن الانتقام”[226]. من الضروري أن ندرك في حياتنا أن “ذلك الحكم القاسي الذي أحمله في قلبي ضدّ أخي أو أختي، وذلك الجرح الذي لم يندمل، والشرّ الذي لم أغفره، وتلك الضغينة التي تضرّني وحسب، إنما هو بمثابة حربٍ صغيرةٍ أحملها في داخلي، هو نار في القلب يجب إطفاؤها حتى لا تصبح حريقًا”[227].
244.عندما لا نعمل على حلّ الصراعات، بل نخفيها أو ندفنها في الماضي، إنّما هذا الصمت قد يعني التواطؤ في الأخطاء والذنوب الجسيمة. لكن المصالحة الحقيقية لا تهرب من الصراع بل تتحقّق فيه، إذ تتخطّاه عن طريق الحوار والتفاوض الشفّاف والصادق والصبور. الصراع بين القطاعات المختلفة “عندما يمتنع عن العداء والكراهية المتبادلة، يتحوّل، عن غير وعي، إلى نقاش صادق يقوم على حبّ العدالة”[228].
245.لقد اقترحتُ مرارًا وتكرارًا “مبدأ ضروريًّا لبناء صداقةٍ اجتماعية وهو الوَحدة أسمى من الصراع. […] هذا لا يعني أن نهدف إلى مبدأ التوفيقيّة (syncrétisme) ولا إلى استيعاب الواحد الآخر، إنما إلى إيجاد حلّ على مستوى أسمى، يحافظ، في ذاته، على القدرات الثمينة التي تتمتّع بها الأقطاب المتعارضة”[229]. نحن ندرك جيدًا أننا “في كلّ مرّة نتعلّم فيها، أشخاصًا وجماعات، أن نهدف إلى ما هو أسمى منّا ومن مصالحنا الخاصّة، يتحوّل التفهّم والالتزام المتبادل […] إلى إطار تتوصّل فيه النزاعات والتوترات، وحتى تلك التي كانت قد تُعتبر متناقضة في الماضي، إلى وحدةٍ متعدّدة الأوجه تولّد حياة جديدة”[230].
246.لا ينبغي أن يُطلَب مِن شخصٍ قد عانى الكثيرَ ظُلمًا وقساوةً، نوعًا من “التسامح الاجتماعي”. المصالحة هي عمل شخصي، ولا يمكن لأحد أن يفرضها على المجتمع ككلّ، حتى لو كان من واجبه أن يشجّع عليها. يقدر الشخص، على المستوى الشخصي البحت، وبقرار حرّ وسخي، أن يتنازل عن المطالبة بالعقوبة (را متى 5، 44- 46)، حتى لو مال إليها شرعًا المجتمعُ والعدالة. لكن لا يمكن إصدار أمر بـ “مصالحة عامة”، تحت ذريعة ختم الجراح بفعل مرسوم أو تغطية المظالم بغطاء من النسيان. فمَن يستطيع انتحال حقّ المسامحة نيابة عن الآخرين؟ إنه لأمر مؤثّر أن نرى قدرة بعض الأشخاص، الذين عرفوا كيف يتخطّون الضرر الذي طالهم، على التسامح، ولكن من الإنساني أيضًا تفهّم أولئك الذين لم يقدروا على تخطيّه. على أيّ حال، ما لا ينبغي اقتراحه هو النسيان.
247.يجب ألّا ننسى المحرقة. فهي “رمز إلى أيّ مدى يمكن أن يذهب شرّ الإنسان عندما ينسى، مدفوعًا بأيديولوجيات كاذبة، الكرامةَ الأساسية للفرد الذي يستحقّ الاحترام المطلق بغضّ النظر عن الشعب الذي ينتمي إليه أو الدين الذي يعتنقه”[231]. إنني إذ أتذكّرها لا يسعني إلّا أن أكرّر هذه الصلاة: «اذكرنا برحمتك يا ربّ. امنحنا النعمة لنخجل ممّا استطعنا القيام به، نحن البشر، لنخجل مِن العمل الوثنيّ الأعظم هذا، ومِن احتقارنا لأجسادنا وتدميرها، ذلك الجسد الذي صنَعتَه من الطين، والذي أحيَيته بنفس حياتك. بعد الآن أبدًا، يا ربّ، بعد الآن أبدًا!”[232].
248.يجب ألّا ننسى القصف الذرّي على هيروشيما وناغازاكي. مرّة جديدة “أحيّي ذكرى جميع الضحايا وأنحني أمام قوّة وكرامة الذين، بعد أن نجوا من تلك اللحظات، تكبّدوا في أجسادهم لسنين عديدة أشدّ المعاناة، وتحمّلوا في عقولهم، بذور الموت التي استمرّت في استهلاك طاقتهم الحيويّة. […] لا يمكننا أن نسمح للأجيال الحالية والآتية بأن تفقد ذاكرة ما حدث، وهذه الذاكرة هي التي تضمن وتحفّز على بناء مستقبل أكثر عدلًا وأخوّة”[233]. ولا ينبغي لنا أن ننسى كذلك الاضطهادات، وتجارة العبيد، والمذابح العرقية التي حدثت وتحدث في مختلف البلدان، والعديد من الأحداث التاريخية الأخرى التي تجعلنا نخجل من كوننا بشر. يجب أن نتذكّرها دائمًا، مرارًا وتكرارًا، دون أن يأخذنا التعب أو أن “نتخدّر”.
249.من السهل اليوم أن نميل إلى طيّ الصفحة فنقول إن وقتًا طويلًا قد مضى وأنه يجب علينا أن نتطلّع إلى الأمام. لا، بحقّ الله! لا أحد يتقدّم دون ذاكرة، ولا يتطوّر دون ذاكرة متكاملة ومنيرة. نحن بحاجة إلى أن نُبقِي “شعلة الوعي الجماعي، فتشهد للأجيال الصاعدة عن رعب ما حدث” و “توقِظ وتَحفظ بهذه الطريقة ذكرى الضحايا، حتى يتقوّى الضمير الإنساني باستمرار إزاء كلّ رغبة في الهيمنة والدمار”[234]. فالضحايا ذاتهم –أشخاص، وفئات اجتماعية، ودول- هم بحاجة إلى هذه الذاكرة حتى لا نستسلم إلى المنطق الذي يقود إلى تبرير الانتقام أو أيّ عنف كان باسم معاناة من شرّ كبير سابِق. لذا فإنني لا أشير فقط إلى ذكرى الأهوال، ولكن أيضًا إلى ذكرى الذين، وسط سياق مسموم وفاسد، تمكّنوا من استعادة كرامتهم، وعن طريق أعمال صغيرة أو كبيرة اختاروا التضامن والتسامح والأخوّة. من السليم جدّا أن نتذكّر الخير.
250.المغفرة لا تعني النسيان. بل نقول إنه عندما يكون هناك أمر لا يمكن إنكاره أو تخفيفه أو إخفاؤه بأيّ شكل من الأشكال، يمكننا مع ذلك أن نغفر. عندما يكون هناك أمر يجب ألا نتسامح معه أو نبرّره أو نعذره، يمكننا أن نغفر. عندما يكون هناك أمر، يجب ألّا نسمح لأنفسنا بأن ننساه، لأي سبب كان، ومع ذلك يمكننا أن نغفر. الغفران المجّاني والصادق هو عظمة تعكس عظمة الغفران الإلهي. إذا كان الغفران مجّانيًا، فمن الممكن أن نغفر حتى لمَن يقاوم التوبة ويعجز عن طلب المغفرة.
251.الذين يغفرون حقًا لا ينسون، إنّما لا يسمحون بأن تستولي عليهم القوّة المدمّرة نفسها التي أضرّت بهم. يكسرون الحلقة المفرغة ويبطئون تقدّم قوى الدمار. يقرّرون عدم الاستمرار في تلقيح المجتمع بطاقة الانتقام التي، عاجلًا أم آجلًا، سوف تقع عليهم مجدّدًا. لأنّ الانتقام لا يُشبِع أبدًا استياء الضحايا. هناك جرائم مروعة وقاسية للغاية، لدرجة أننا لن نشعر يومًا بتعويض عن الجريمة حتى وإن أنزلنا الألم بمرتكبيها؛ لن يكفي حتى قتل المجرم، ولا يمكن إيجاد تعذيب يعادل ما قد تكون الضحية قد عانت منه. الانتقام لا يحلّ شيئا.
252.لا نتحدّث كذلك عن الإفلات من العقاب. لكن لا يمكننا السعي إلى تطبيق العدالة بشكل صحيح إلّا محبّةً للعدالة نفسها، واحترامًا للضحايا، ومنعًا لجرائم جديدة، ومن أجل الحفاظ على الخير العام، وليس تصريفًا مزعومًا لغضبنا. فالغفران هو بالتحديد ما يسمح بالسعي للعدالة دون الوقوع في دائرة الانتقام المفرغة أو جور النسيان.
253.وحيثما كانت هناك مظالم متبادلة، ينبغي الاعتراف بوضوح بأنها ربما لم يكن لها الخطورة نفسها أو لا يمكن المقارنة بينها. فالعنف الذي تمارسه هيكليّات الدولة وسلطتها ليس بنفس مستوى عنف مجموعات معيّنة. على أيّ حال، لا يمكن المطالبة بأن يُذكَر ما عاناه ظُلمًا أحد الأطراف فقط. كما علّم أساقفة كرواتيا، “نحن ندين لكلّ ضحيّة بريئة بالاحترام نفسه. لا يمكن أن تكون هناك اختلافات عرقية أو مذهبية أو قومية أو سياسية”[235].
254.أسأل الله “أن يهيّئ قلوبنا لأن نلتقي الإخوةَ، متخطّين الاختلافات في الأفكار، واللغة، والثقافة، والدين. وأن يمسَحَ كيانَنا كلّه بزيت الرحمة الذي يشفي جراح الأخطاء، وسوء الفهم، والخلافات؛ وأطلب منه نعمة إرسالنا، بتواضع ووداعة، على دروب البحث عن السلام، المُتعِبَة والمُثمِرة”[236].
255.هناك موقفان شديدان قد يُقترحان حلًّا في ظروف مأساوية للغاية، دون أن ندرك أنهما إجابة خاطئة، لا تحلّ المشكلات التي نحاول التغلّب عليها، ولا تضيف إلى نسيج المجتمع الوطني والعالمي، في النهاية، إلّا عوامل مدمّرة جديدة. وهما الحرب وعقوبة الإعدام.
256.”المَكرُ في قُلوبِ الَّذينَ يُضمِرونَ الشَّرّ وللمُشيرينَ بِالسِّلم فَرَح” (أمثال 12، 20). ومع ذلك، هناك من يبحث عن حلولٍ عن طريق الحرب، والتي غالبًا ما تتغذّى من “شذوذ العلاقات، وطموحات في الهيمنة، وسوء استخدام السلطة، والخوف من الآخر، والاختلاف الذي يُعتَبَر عقبة”[237]. الحرب ليست شبحًا من الماضي، لقد أصبحت تهديدًا دائمًا. إنّ العالم يواجه صعوبات أكثر فأكثر في طريق السلام البطيء الذي سلكه والذي كان قد بدأ بإعطاء ثماره.
257.نظرًا لعودة الظروف التي تسمح بانتشار الحروب، أذكّر أنّ “الحرب هي إنكار لجميع الحقوق واعتداء مأساويّ على البيئة. فإذا أردنا تنمية بشرية حقيقية متكاملة للجميع، لا بدّ من المضيّ قدمًا، ودون كلل، في عملنا على تحاشي الحرب بين الأمم والشعوب. ولذا، ينبغي ضمان السيادة المطلقة للقانون واللجوء بلا كلل إلى التفاوض، والمساعي الحميدة والتحكيم، كما يقترح ميثاق الأمم المتّحدة، قاعدة قانونية أساسيّة حقّة”[238]. أودّ أن أؤكّد أنّ خمسة وسبعين عامًا من عمر الأمم المتّحدة واختبار السنوات العشرين الأولى من هذه الألفيّة تُظهِر أنّ التطبيق الكامل للمعايير الدولية هو فعّال حقًا، وأن عدم الامتثال له هو ضارّ. إنّ ميثاق الأمم المتّحدة، إذا احتُرِم وطُبِّق بشفافية وأمانة، إنما هو مرجع إلزامي للعدالة ووسيلة للسلام. لكن هذا يفترض عدم إخفاء النوايا الزائفة أو وضع المصالح الخاصّة لأيّ دولة أو جماعة فوق الخير العام العالمي. فحين نعتبر المعايير كأداة تُستخدم عندما تكون مواتية لمصالحنا ونتجنّبها عندما لا تكون كذلك، تتحرّك قوى خارجة عن السيطرة تلحق ضررًا كبيرًا بالمجتمعات، والأضعف، والأخوّة، والبيئة، والتراث الثقافي، مع خسائر لا يمكن تعويضها للمجتمع العالمي.
258.هذا هو مدى سهولة اختيار الحرب، مقدّمين كلّ أنواع الأعذار الإنسانية أو الدفاعية أو الوقائية المزعومة، ولاجئين حتى إلى التلاعب بالمعلومات. فجميع الحروب في الواقع، في العقود الماضية، كان لها “تبريرها” المزعوم. يتحدّث التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية عن إمكانية الدفاع المشروع بالقوّة العسكرية، والتي تتضمّن إثبات وجود بعض “الشروط الصارمة للشرعية الخُلُقية”[239]. لكننا نقع بسهولة في تفسير واسع جدًّا لهذا الحقّ المحتمل. هذه هي الطريقة التي يريدون بها تبرير الهجمات “الوقائية” أو الأعمال العسكرية التي بالكاد لا تنطوي على “شرور واضطرابات أخطر من الشرّ الذي يجب دفعه”[240]. النقطة المهمّة هي أنه مع تطوير الأسلحة النووية والكيميائية والبيولوجية، والإمكانيات الهائلة والمتنامية التي توفّرها التقنيات الجديدة، أُعطِيت الحرب قوّة تدميرية خارجة عن السيطرة تصيب الكثير من المدنيّين الأبرياء. في الحقيقة، “لم يكن للبشريّة قطّ مثل هذه السلطة على ذاتها، وما من شيء يضمن أنها سوف تستعملها بطريقة جيّدة”[241]. من ثمّ لم يعد بإمكاننا التفكير في الحرب باعتبارها حلاّ، لأنّ المخاطر سوف تكون على الأرجح أكبر من المنفعة الافتراضية المنسوبة إليها. وإزاء هذا الواقع، من الصعب اليوم التمسّك بالمعايير العقلانية التي نضجت في قرون أخرى كي نتحدّث عن “حرب مُحِقّة” ممكنة. لا للحرب مرّة أخرى![242].
259.من المهمّ أن نضيف أنه، مع تطوّر العولمة، ما قد يظهر على أنه حلّ فوري أو عمليّ لمكان ما على الأرض، يولّد سلسلة من العوامل العنيفة غالبًا ما تكون مخفية والتي تؤثّر في النهاية على الكوكب بأكمله وتفتح الطريق أمام حروب مستقبلية جديدة وأسوأ من سابقاتها. في عالمنا الآن، لا يوجد “جزء” من الحرب في بلد أو في آخر فحسب، بل هناك “حرب عالمية على أجزاء”، لأنّ مصائر الدول مرتبطة للغاية ببعضها البعض على المسرح العالمي.
260.كما قال القدّيس يوحنا الثالث والعشرون، “من السخيف القول بأن الحرب هي وسيلة مناسبة لتعويض الحقّ المُنتَهَك”[243]. وقد قال ذلك خلال فترة زمنية تشهد توتّر دولي شديد، وعبّر فيه عن التوق الكبير إلى السلام، الذي كان منتشرًا أثناء الحرب الباردة. فثبّت القناعة بأنّ دوافع السلام هي أقوى من أيّ حساب للمصالح الخاصّة وأقوى من أيّ ثقة في استخدام السلاح. لكن الفرص التي أتاحتها نهاية الحرب الباردة لم تُستغلّ على النحو المناسب بسبب الافتقار إلى رؤية للمستقبل وإلى وعيٍ مشترك لمصيرنا المشترك. بل استسلموا للسعي وراء المصالح الخاصّة دون تحمّل مسؤولية الخير العام العالمي. وهكذا عاد شبح الحرب المخادع فشقّ طريقه من جديد.
261.إنّ كلّ حرب تترك العالم أسوأ ممّا كان عليه قبلها. فالحرب هي فشل السياسة والإنسانية، واستسلامٌ مُخزٍ، وهزيمة ضدّ قوى الشرّ. لا يمكننا أن نبقى في مناقشات نظرية، بل دعونا نتحسّس الجراح، ونلمس جسد الجرحى. دعونا ننظر إلى هذا العدد الكبير من المدنيّين الذين قُتِلوا كأنهم “أضرار جانبية”. تعالوا نسأل الضحايا. دعونا نهتمّ باللاجئين، بأولئك الذين عانوا من الإشعاع الذري أو الهجمات الكيميائية، والنساء اللواتي فقدن أبناءَهن، والأطفال المشوّهين أو المحرومين من طفولتهم. تعالوا نهتمّ لحقيقة ضحايا العنف هؤلاء، وننظر إلى الواقع بأعينهم ونصغي إلى قصصهم بقلب مفتوح. وبهذه الطريقة سنتمكن من رؤية هاوية الشرّ في الحرب، ولن ننزعج من أن يعاملوننا على أننا أشخاص سُذَّج بسبب اختيارنا للسلام.
262.لن تكفينا القواعدُ كذلك إذا اعتقدنا أن حلّ المشكلات الحالية يكمُنُ في ردع الآخرين من خلال الخوف أو التهديد باستخدام الأسلحة النووية أو الكيميائية أو البيولوجية. لأنه “إذا أخذنا في الاعتبار التهديدات الجوهرية للسلام وللأمن في أبعاده المتعدّدة في هذا العالم المتعدّد الأقطاب في القرن الحادي والعشرين، مثل الإرهاب، على سبيل المثال، والصراعات غير المتكافئة، وأمن المعلومات، والمشاكل البيئية، والفقر، فسوف تظهر شكوك عديدة حول ملاءمة الردع النووي لمواجهة هذه التحدّيات بفعالية. وتزداد هذه المخاوف عندما نأخذ في الاعتبار العواقب الإنسانية والبيئية الكارثية الناجمة عن أي استخدام لأسلحة نووية ذات آثار مدمرة وعشوائية وخارجة عن السيطرة في الزمان والمكان […] يجب أن نسأل أنفسنا إلى أيّ مدى يكون مستدامًا التوازنُ القائم على الخوف، عندما يميل هذا التوازن في الواقع إلى زيادة الخوف وتقويض علاقات الثقة بين الشعوب. لا يمكن أن يقوم السلام والاستقرار الدوليان على أساس شعور زائف بالأمن، أو على التهديد بالتدمير المتبادل أو الإبادة الكاملة، أو على مجرّد الحفاظ على توازن القوى […] ويصبح الهدفُ النهائي لإزالة كاملة للأسلحة النووية في هذا الإطار، تحدّيًا وضرورة خُلُقية وإنسانية على حدّ سواء […] أمّا ازدياد الترابط المتبادل والعولمة فتعني أن أيّ تفاعل لنا إزاء خطر الأسلحة النووية يجب أن يكون جماعيًّا وتضافريًّا، مبنيًّا على أساس الثقة المتبادلة. ولا يمكن بناء هذ الثقة إلّا من خلال حوار هدفه الخير العام حقًّا وليس حماية المصالح الخفيّة أو الخاصّة”[244]. أمّا المال الذي يُستخدَم في السلاح والنفقات العسكرية الأخرى، فليكن لإنشاء صندوق عالميّ[245]، من أجل القضاء على الجوع نهائيًّا وتنمية الدول الفقيرة، حتى لا يلجأ سكّانها إلى حلول عنيفة أو خادعة، ولا يحتاجوا إلى مغادرة بلادهم بحثًا عن حياة كريمة.
263.هناك طريقة أخرى للتخلّص من الآخر، لا تُطَبّق على البلدان بل على الأفراد. وهي عقوبة الإعدام. لقد صرّح القدّيس يوحنا بولس الثاني بوضوح وحزم أن هذه العقوبة هي غير ملائمة على المستوى الخُلُقي ولم تعد ضروريّة على المستوى الجنائي[246]. ولا يمكن التفكير في التراجع عن هذا الموقف. ونقول اليوم بوضوح إنّ “عقوبة الإعدام غير مقبولة[247] والكنيسة تعمل بعزم على طرح إلغائها في جميع أنحاء العالم[248].
264.كان الرسل، في العهد الجديد، يطلبون من الأفراد عدم تحقيق العدالة بأنفسهم (را. روم 12، 19)، وكانوا يعترفون في الوقت ذاته بضرورة أن تفرض السلطاتُ عقوبات على من يفعلون الشرّ (را. روم 13، 4؛ 1 بط 2، 14). في الواقع إنّ “الحياة المشتركة، المبنيّة حول مجتمعات منظمّة، تحتاج إلى قواعد تعايش تتطلّب تفاعلًا مناسبًا إذا ما تمّ انتهاكها بحرّية”[249]. وهذا يعني أنّ السلطة العامة الشرعية يمكنها وينبغي لها أن “تأمر بعقوبات تتناسب مع خطورة الجرائم”[250] وأن يُضمَن للسلطة القضائية “الاستقلالية اللازمة في مجال القانون”[251].
265.كان البعض يعارض عقوبة الإعدام بشكل واضح منذ القرون الأولى للكنيسة. فكان لاكتانسيو على سبيل المثال، يقول بأنه “لا ينبغي التمييز: فقتل إنسان هو دومًا جريمة”[252]. ونصح البابا نيكولاس الأول قائلًا: “ابذلوا كلّ جهد كي تحرّروا من عقوبة الإعدام، ليس فقط كلّ الأبرياء، بل أيضًا كلّ المذنبين”[253]. أمّا القدّيس أوغسطينوس فطلب من القاضي بمناسبة محاكمة بعض المجرمين الذين قتلوا اثنين من الكهنة، عدم سلب حياة القتلة، وبرّر طلبه على هذا النحو بقوله: “لا نريد بهذا أن نقف ضدّ منع هؤلاء المجرمين من ارتكاب الجرائم. بل نريد، في حين نبقيهم أحياء ودون المس بجسدهم؛ ومن خلال تطبيق القوانين القمعية، أن نصرف انتباههم عن الانفعالات السيّئة ونعيدهم إلى حياة سلمية وهادئة، أو أن ينخرطوا في بعض الأعمال المفيدة، عبر إبعادهم عن أفعالهم الشرّيرة. وهذا أيضًا يُدعى إدانة، لكن الجميع سيفهم أنها منفعة وليست عقابًا، حين يرى أنه قد وضع حدّ لجرأتهم على الأذى، وأنّ دواء التوبة ليس ممنوع. […] أظِهر استياءك من الإثم ولكن بشكل لا ينسيك الإنسانية. لا ترضِ شهوة الانتقام من فظائع المذنبين، بل لتكن نيّتك تضميد جراح هؤلاء الخطأة“[254].
266.إنّ الخوف والاستياء يقودان بسهولة إلى فهم العقوبات على أنها انتقامية، هذا إن لم تكن وحشية، بدلًا من فهمها على أنها جزء من عملّية تعاف وإعادة إدماج في المجتمع. اليوم، “يتم التحريض أحيانًا، من قِبَلِ بعض القطاعات السياسة وبعض وسائل الإعلام، على العنف والانتقام، العام والخاصّ، ليس فقط ضدّ المسؤولين عن ارتكاب الجرائم، ولكن أيضًا ضدّ المشتبه بعدم امتثالهم للقانون، سواء كان لهذا الاشتباه أساس أم لا. […] هناك ميل إلى صنع الأعداء عن عمد: مثل الشخصيّات النمطية، التي تجمع في ذاتها جميع الخصائص التي يراها المجتمع أو يفسّرها على أنها خطيرة. إنّ آليات تشكيل هذه الصور، هي نفسها التي سمحت في ذلك الوقت بتوسّع الأفكار العنصرية”[255]. وهذا ما يجعل اعتيادَ بعض البلدان على اللجوء أكثر فأكثر إلى الحجز الوقائي، وإلى احتجاز الأشخاص دون محاكمتهم، أو إصدار عقوبات بالإعدام، خطيرًا للغاية.
267.أريد الإشارة إلى أنه “من المستحيل أن نتخيّل ألّا يكون لدى الدول اليوم أيّ وسيلة أخرى غير عقوبة الإعدام للدفاع عن أرواح الضحايا مِن المعتدي الظالم”. أمّا ما يُسمّى بعمليات الإعدام الخارجة عن نطاق القضاء أو نطاق القانون فهي ذات خطورة كبيرة، إنها “جريمة قتل معتمدة ترتكبها بعض الدول أو بعض وكلائها، وغالبًا ما تُقدَّم على أنها مواجهات مع مجرمين أو نتيجة غير مقصودة لاستخدام -منطقي وضروري ومناسب- القوّة، بهدف تطبيق القانون”[256].
268.”إنّ الحجج التي تعارض عقوبة الإعدام هي كثيرة ومعروفة. وقد سلّطت الكنيسة الضوء بشكل مناسب على بعضها، مثل إمكانية وجود خطأ قضائي، أو تطبيقها من قِبَلِ الأنظمة الشمولية والديكتاتورية، التي تستخدمها كأداة لقمع المعارضة السياسية أو اضطهاد الأقلّيّات الدينية والثقافية، التي هي جميعها ضحايا، والتي هي “مجرمة” وفقًا لقوانينهم. لذا فإنّ كلّ المسيحيّين وذوي الإرادة الصالحة هم مدعوّون، من ثمّ، إلى الكفاح ليس فقط من أجل إلغاء عقوبة الإعدام، سواء كانت قانونية أو غير قانونية، وفي جميع أشكالها، ولكن أيضًا من أجل تحسين ظروف السَجن، احترامًا للكرامة الإنسانية للأشخاص المحرومين من حرّيتهم. وأربط هذا بالسجن المؤبّد. […] السجن المؤبّد هو عقوبة إعدام مستترة”[257].
269.لنتذكّر أنّ القاتل “لا يزال يملك كرامته الشخصيّة، والله نفسه في ذلك كفيل”[258]. ويُظهِرُ الرفضُ القاطع لعقوبة الإعدام مدى إمكانية الاعتراف بالكرامة غير القابلة للتصرّف لكلّ إنسان والاعتراف بأنّ له مكانه في هذا العالم. لأنه إذا لم يُنكر هذا لأسوأ المجرمين، فلن يُنكر لأيّ شخص، وسوف يُمنح الجميعُ إمكانية المشاركة بهذا الكوكب على الرغم ممّا قد يفرّق بيننا.
270.أمّا بالنسبة للمسيحيّين الذين يشكّكون ويميلون إلى الاستسلام لأيّ شكل من العنف، فأدعوكم إلى أن تتذكّروا ما قاله النبيّ في سفر إشعياء: “يَضرِبونَ سُيوفَهم سِكَكاً” (2، 4). بالنسبة لنا، تتجسّد هذه النبوءة في يسوع المسيح، الذي قال بحزم أمام تلميذٍ أثاره العنف: “إِغمِدْ سيفَك، فكُلُّ مَن يَأخُذُ بِالسَّيف بِالسَّيفِ يَهلِك” (متى 26، 52). وما كان هذا إلّا صدى لذلك التحذير القديم: “أَمَّا دِماؤكم، أَي نُفوسُكم، فأَطلُبُها، مِن يَدِ كُلِّ وَحْشٍ أَطلُبُها، ومِن يَدِ الإِنسان: مِن يَدِ كُلِّ إنْسانٍ أَطلُبُ نَفْسَ أَخيه. من سفَكَ دَمَ الإِنسان سُفِكَ دَمُه عن يَدِ الإِنسان” (تك 9، 5- 6). إنّ ردّ فعل يسوع هذا، الذي نبع من قلبه، يتخطّى مسافة القرون ويصل اليوم تذكيرًا دائمًا.
الأديان في خدمة الأخوّة في العالم
271.إنّ الأديان المختلفة، انطلاقًا من اعترافها بقيمة كلّ إنسان باعتباره مخلوقًا مدعوًّا ليكون ابنًا أو ابنة لله، تُقدِّم مساهمة قيّمة في بناء الأخوّة والدفاع عن العدالة في المجتمع. ولا يتمّ الحوار بين أتباع الديانات المختلفة بدافع الدبلوماسية أو اللطف أو التسامح. كما علّم أساقفة الهند، “هدف الحوار هو إقامة الصداقة والسلام والوئام ومشاركة القيم والخبرات الخُلُقية والروحية بروح من الحقيقة والمحبّة”[259].
272.نعتبر نحن المؤمنون أنه بدون الانفتاح على أبي الجميع، لن تكون هناك دوافع قويّة وثابتة للدعوة إلى الأخوّة. ولنا القناعة بأنه “لا يمكننا أن نعيش بسلام فيما بيننا إلّا بواسطة هذا الوعي لكوننا أبناء ولسنا أيتامًا”[260]. لأنّ “العقل وحده قادر على قبول المساواة بين البشر وإرساء تعايش مدنيّ بينهم، لكنه لم يستطع تأسيس الأخوّة”[261].
273.في هذا الصدد، أريد أن أذكّر بنصّ جدير بالذكر: “فإذا لم تكن هناك حقيقة عُليا تُكسب الإنسان الآخذ بها ملء هويّته، فلن يكون هناك، والحالة هذه، أيّ مبدأ وثيق يضمن للبشر سلامة العلاقات بينهم، فتمسي مصالحهم الطبقيّة أو الفئوية، أو الوطنيّة بينهم سبب تنافر لا مفرّ منه. إذا لم نقرّ بالحقيقة العليا، تغلّبت قوة السلطة، وراح كلّ منّا يستنفذ ما لديه من وسائل إعلاء مصالحه وآرائه بصرف النظر عن حقوق الآخرين […] لا بدّ إذن من أن نعيد جذور التوتاليّة الحديثة إلى نكران الكرامة السامية للشخص البشري، الصورة المنظورة للإله اللامنظور، وهو بسبب ذلك، ومن ذات طبيعته، صاحب حقوق لا يستطيع إنسان أن يمسّها، لا الفرد ولا الجماعة ولا الطبقة ولا الأمّة ولا الدولة نفسها. ولا يجوز كذلك للأغلبيّة في جسم اجتماعي أن تطغى على الأقليّة لتعزلها أو تضيّق عليها أو تستغلّها أو تسعى لإلغائها”[262].
274.نعرف، نحن المؤمنون من مختلف الأديان، مِن خبرتنا في الإيمان ومِن الحكمة التي نَمَت عبر القرون، ولأننا تعلّمنا أيضًا من نقاط ضعفنا وسقطاتنا العديدة، أنّنا إذا جعلنا الله حاضرًا في مجتمعاتنا إنما هو خير لها. فالبحث عن الله بقلب صادق، طالما أننا لا “نحجبه” بمصالحنا الأيديولوجية أو الأداتية، يساعدنا على أن نرى في بعضنا البعض رفاق الدرب، وإخوة حقيقيين. نعتقد أنه “عندما نريد استبعاد الله عن المجتمع، باسم أيديولوجية ما، نتوصّل في النهاية إلى عبادة آلهة كاذبة، ويتيه الإنسان فورًا، وتُداس كرامته، وتُنتَهك حقوقه. أنتم تعرفون جيدًا الفظائع التي يمكن أن ينتجها الحرمان من حرّية الضمير والحرّية الدينية، وكيف أن هذا الجرح يُجرّدُ الإنسانيةَ من غِناها، ويسلبها الرجاءَ والمُثُل”[263].
275.وتجدر الإشارة إلى أن “أهمَّ أسبابِ أزمةِ العالمِ اليَوْمَ يَعُودُ إلى تَغيِيبِ الضميرِ الإنسانيِّ وإقصاءِ الأخلاقِ الدِّينيَّةِ، وكذلك استِدعاءُ النَّزْعَةِ الفرديَّةِ والفَلْسَفاتِ المادِّيَّةِ، التي تُؤَلِّهُ الإنسانَ، وتَضَعُ القِيَمَ المادِّيَّةَ الدُّنيويَّةَ مَوْضِعَ المَبادِئِ العُلْيَا والمُتسامِية”[264]. لا يمكننا أن نقبل بألّا يكون هناك رأي في النقاش العام إلّا رأي الأقوياء والعلماء فقط. بل يجب أن يكون هناك مجال لتفكير يأتي من خلفية دينية تجمع قرونًا من الخبرة والحكمة. في الواقع، “النصوص الدينية الكلاسيكية يمكنها أن تقدّم تفسيرًا لجميع العصور، ولها قوّة تعليل” ولكن في الواقع “يحطُّ من قدرها قِصَرُ فهم العقلانيات”[265].
276.لهذه الأسباب، رغم أن الكنيسة تحترم استقلالية السياسة، إلّا أن رسالتها لا تقتصر على المجال الخاص. بل على العكس، “لا يمكن ولا ينبغي أن تظلّ على الهامش” في بناء عالم أفضل أو أن تتغاضى عن “إيقاظ القوى الروحية”[266] التي تُخصِب حياة المجتمع بأسرها. صحيح أنه لا ينبغي لِمَن نالوا درجةً من درجات الكهنوت أن يمارسوا السياسات الحزبية، الخاصّة بالعلمانيين، لكن حتى هم، لا يستطيعون التخلّي عن البعد السياسيّ للوجود[267] الذي يشمل الاهتمام المستمرّ بالخير العام، والاعتناء بالتنمية البشرية المتكاملة. “فللكنيسةِ دورٌ في المجتمعِ لا ينحصرُ في نشاطِها الإحسانيّ والتربويّ” بل يسعى لترقية “الإنسانِ والأخوَّةِ الشاملةِ”[268]. إنها لا تطمح إلى المنافسة على القوى الأرضية، بل لأن تقدّم نفسها كـ “أسرة بين الأسر-هذه هي الكنيسة-، منفتحة […] لتشهد في عالم اليوم للإيمان والرجاء والمحبةّ تجاه الربّ وتجاه مَرضِيّيه. بيتٌ أبوابُه مفتوحة. الكنيسة هي بيتٌ أبوابُه مفتوحة، لأنها أمّ”[269]. ونريد، على غرار مريم أمّ يسوع، “أن نكون كنيسة تخدم، تخرج من البيت، تخرج من الكنائس، تخرج من السكرستيا، كي ترافق الحياة، وتساند الرجاء، وتكون علامة وَحدة […] كي تبني الجسور، وتهدم الجدران وتزرع المصالحة”[270].
277.إنّ الكنيسة تقدّر عمل الله في الديانات الأخرى، و “لا ترذل شيئًا مما هو حقّ ومقدّس في هذه الديانات. بل تنظر بعين الاحترام والصراحة الى تلك الطرق، طرق المسلك والحياة، والى تلك القواعد والتعاليم التي غالبًا ما تحمل شعاعًا من تلك الحقيقة التي تنير كلّ الناس”[271]. لكن لا يسعنا، نحن المسيحيّين، أن نخفي أنه “إذا توقّفت موسيقى الإنجيل عن أن ترنّ في أحشائنا، نكون قد فقدنا الفرحَ الذي ينبع من التعاطف، والحنانَ الذي يولد من الثقة، والقدرةَ على التصالح التي تنبع من إدراكنا بأنّ الله غفرَ لنا وأرسلنا. إذا توقّفت موسيقى الإنجيل عن العزف في بيوتنا، في ساحاتنا، في أماكن عملنا، في السياسة والاقتصاد، نكون قد أطفأنا النغمة التي كانت تدفعنا للنضال من أجل كرامة كلّ رجل وامرأة”[272]. إنّ الآخرين يستقون من ينبوع آخر. أمّا بالنسبة لنا، فمصدر الكرامة الإنسانية والأخوّة هو إنجيل ربّنا يسوع المسيح. ومنه تنشأ “بالنسبة للفكر المسيحي ولعمل الكنيسة، الأولوية التي تُعطى للعلاقة، وللالتقاء بسرّ الآخر المقدّس، وللشركة الروحية الشاملة مع البشرية جمعاء، باعتبارها دعوة للجميع”[273].
278.إنّ الكنيسة التي هي المدعوّة للتجسّد في كلّ مكان، والحاضرة لقرون في كلّ أنحاء الأرض -وهذا ما تعني كلمة “كاثوليكية”- تستطيع أن تفهم، مِن خبرتها في النعمة والخطيئة، جمالَ الدعوة إلى الحبّ الشامل. لأنّ “كلّ ما هو بشري وإنساني يعنينا. […] وحيثما تجتمع محافل الشعوب لتقرّ حقوق الإنسان وواجباته، نتشرّف، عندما تسمح لنا، بالجلوس بينها”[274]. إنّ درب الأخوّة هذا، بالنسبة للعديد من المسيحيّين، له أيضًا أمّ تُدعى مريم. وقد نالت هذه الأمومةَ الشاملةَ عند أقدام الصليب (را. يو 19، 26) وهي لا تهتمّ بيسوع فقط إنما أيضًا “ببقيّة أبنائه” (رؤ 12، 17). وتريد، بقوّة القائم من بين الأموات، أن تلد عالمًا جديدًا، نكون فيه جميعًا إخوة، وحيث يوجد متّسع لكلّ المُستَبعَدين من مجتمعاتنا، وحيث يسطع السلام والعدالة.
279.نطلب نحن المسيحيّين، في البلدان التي نشكّل فيها أقلّية، أن تُضمَن لنا الحرّية، تمامًا كما نسعى نحن لترقيتها لغير المسيحيّين حيث هم أقلّية. هناك حقّ أساسي من حقوق الإنسان يجب ألّا ننساه على طريق الأخوّة والسلام، وهو الحرية الدينية للمؤمنين من جميع الأديان. تنصّ هذه الحرية على أنه باستطاعتنا “التوصّل إلى اتّفاق جيّد بين مختلف الثقافات والأديان […] يشهد على أن القواسم المشتركة بيننا كثيرة وهامّة وبالتالي يمكن إيجاد سبيل لتعايش هادئ ومنظّم وسلميّ، وسط قبولٍ للاختلاف وفرحٍ لكوننا إخوة، لأننا أبناء لله الأوحد”[275].
280.ونسأل الله في الوقت نفسه، أن يعزّز الوَحدة داخل الكنيسة، وهي وَحدة تغنيها اختلافات تتصالح بفعل الروح القدس. لأننا “اعتَمَدْنا جَميعًا في رُوحٍ واحِد لِنَكونَ جَسَدًا واحِدًا” (1 قور 12، 13) حيث يقدّم كلّ واحد مساهمته المميزة. كما قال القدّيس أوغسطينوس “الأُذن ترى من خلال العين، والعين تصغي من خلال الأذن”[276]. من الملحّ أيضًا أن نستمرّ في الشهادة لمسيرة التلاقي بين مختلف الطوائف المسيحية. لا يمكننا أن ننسى ذاك الشوق الذي عبّر عنه يسوع المسيح: “فَلْيكونوا بِأَجمَعِهم واحِدًا” (يو 17، 21). حين نسمع دعوته، نعترف بألم أن عملية العولمة لا تزال تفتقر إلى المساهمة النبوية والروحية أي الوَحدة بين جميع المسيحيين. ومع ذلك، “وبينما نقوم بهذه المسيرة نحو الشركة التامّة، فإنّ من واجبنا الآن أن نقدّم شهادة مشتركة لمحبّة الله حيال جميع الأشخاص بواسطة العمل معًا خدمةً للبشرية”[277].
281.إنّ طريق السلام ممكن بين الأديان. يجب أن تكون نقطة الانطلاق نظرةُ الله. لأنّ “الله لا ينظر بعينيه، فالله ينظر بقلبه. ومحبّة الله هي نفسها لكلّ إنسان بغضّ النظر عن دينه. وإن كان ملحدًا فالمحبّة هي نفسها. وعندما يحلّ اليوم الأخير ويكون هناك ما يكفي من النور على الأرض لنرى الأمور على حقيقتها، سوف تنتظرنا الكثيرُ من المفاجآت!”[278].
282.أيضًا، نحتاج نحن المؤمنين “إلى إيجاد مساحات للتحدّث والعمل معًا من أجل الخير العام ومساعدة الفقراء. وهذا لا يعني أن نصبح جميعًا “أكثر خفّة” أو أن نخفي شغفنا بقناعاتنا كي نتلاقى مع الآخرين الذين يفكّرون بطريقة مختلفة. […] لأنه على قدر ما تكون الهويّة عميقة وقويّة وغنيّة، هي تغني الآخرين بمساهمتها الخاصّة”[279]. ونحن المؤمنين، نرى أننا مدفوعون للعودة إلى أصولنا حتى نركّز على ما هو أساسي: عبادة الله ومحبّة القريب، حتى لا تتوصّل بعض جوانب عقائدنا، خارج سياقها، إلى تغذية أشكال من الاحتقار والبغض وكراهية الأجانب، وإنكار الآخر. الحقيقة هي أنه لا أساس للعنف في المعتقدات الدينية الجوهرية بل في تشوّهاتها.
283.إنّ عبادة الله الصادقة والمتواضعة “لا تؤدّي إلى التمييز والكراهية والعنف، بل إلى احترام قدسيّة الحياة، واحترام كرامة الآخرين وحرّيتهم، والالتزام المحبّ تجاه الجميع”[280]. في الواقع “مَن لا يُحِبّ لم يَعرِفِ الله لأَنَّ اللّهَ مَحبَّة” (1 يو 4، 8). ولهذا السبب فإن “الإرهابَ البَغِيضَ الذي يُهدِّدُ أمنَ الناسِ، سَواءٌ في الشَّرْقِ أو الغَرْبِ، وفي الشَّمالِ والجَنوبِ، ويُلاحِقُهم بالفَزَعِ والرُّعْبِ وتَرَقُّبِ الأَسْوَأِ، ليس نِتاجًا للدِّين – حتى وإنْ رَفَعَ الإرهابيُّون لافتاتِه ولَبِسُوا شاراتِه – بل هو نتيجةٌ لتَراكُمات الفُهُومِ الخاطئةِ لنُصُوصِ الأديانِ وسِياساتِ الجُوعِ والفَقْرِ والظُّلْمِ والبَطْشِ والتَّعالِي؛ لذا يجبُ وَقْفُ دَعْمِ الحَرَكاتِ الإرهابيَّةِ بالمالِ أو بالسلاحِ أو التخطيطِ أو التبريرِ، أو بتوفيرِ الغِطاءِ الإعلاميِّ لها، واعتبارُ ذلك من الجَرائِمِ الدوليَّةِ التي تُهدِّدُ الأَمْنَ والسِّلْمَ العالميَّين، ويجب إدانةُ ذلك التَّطرُّفِ بكُلِّ أشكالِه وصُوَرِه”[281]. فالمعتقدات الدينية فيما يتعلّق بالمعنى المقدّس للحياة البشرية تسمح لنا بـ “الاعتراف بالقيم الجوهرية للإنسانية المشتركة، وباسم هذه القيم، يمكننا ولا بد لنا من أن نتعاون، ونبني ونتحاور، ونغفر وننمو، فنسمح لمختلف الأصوات بأن تلحّن نشيدًا نبيلًا ومتناغمًا، بدل صرخات متعصبّة من الكراهية”[282].
284.إن ما يسبّب ظهور العنف الأصولي أحيانًا، في بعض الجماعات من أيّ دين، هو تهوّر قادتها. لكن “وصيّة السلام منقوشة في أعماق التقاليد الدينية التي نمثّلها. […] نحن القادة الدينيّون مدعوّون لأن نكون “شركاء حوار” حقيقيّين، ولأن نعمل في بناء السلام، وسطاءَ حقيقيّين لا سَماسِرة. فالسماسرة يسعون إلى إرضاء جميع الأطراف لتحقيق ربحٍ لأنفسهم. أمّا الوسيط فهو الذي لا يحتفظ بأيّ شيء لنفسه، بل يبذلها بسخاء، وللغاية، عالمًا أن المكسب الوحيد هو السلام. كلّ منّا هو مدعوّ لأن يكون صانع سلام، ولأن يسعى للوَحدة لا للتفريق، ولإخماد الكراهية لا لحفظها، ولفتح دروب الحوار لا لبناء جدران جديدة”[283].
285.في ذلك اللقاء الأخويّ الذي أتذكّره بفرح، مع فضيلة الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب، أعلنّا “-وبحَزمٍ- أنَّ الأديانَ لم تَكُنْ أبَدًا بَرِيدًا للحُرُوبِ أو باعثةً لمَشاعِرِ الكَراهِيةِ والعداءِ والتعصُّبِ، أو مُثِيرةً للعُنْفِ وإراقةِ الدِّماءِ، فهذه المَآسِي حَصِيلَةُ الانحِرافِ عن التعاليمِ الدِّينِيَّة، ونتيجةُ استِغلالِ الأديانِ في السِّياسَةِ، وكذا تأويلاتُ طائفةٍ من رِجالاتِ الدِّينِ – في بعض مَراحِلِ التاريخِ – ممَّن وظَّف بعضُهم الشُّعُورَ الدِّينيَّ […] أنَّ الله [..] في غِنًى عمَّن يُدَافِعُ عنه أو يُرْهِبُ الآخَرِين باسمِه”[284]. ولذا فأريد أن أستأنف هنا الدعوة التي أطلقناها معًا إلى السلام والعدالة والأخوّة:
“باسمِ الله الَّذي خَلَقَ البَشَرَ جميعًا مُتَساوِين في الحُقُوقِ والواجباتِ والكَرامةِ، ودَعاهُم للعَيْشِ كإخوةٍ فيما بَيْنَهم ليُعَمِّروا الأرضَ، ويَنشُروا فيها قِيَمَ الخَيْرِ والمَحَبَّةِ والسَّلامِ.
باسمِ النفسِ البَشَريَّةِ الطَّاهِرةِ التي حَرَّمَ اللهُ إزهاقَها، وأخبَرَ أنَّه مَن جَنَى على نَفْسٍ واحدةٍ فكأنَّه جَنَى على البَشَريَّةِ جَمْعاءَ، ومَنْ أَحْيَا نَفْسًا واحدةً فكَأنَّما أَحْيَا الناسَ جميعًا.
باسمِ الفُقَراءِ والبُؤَساءِ والمَحرُومِينَ والمُهمَّشِينَ الَّذين أَمَرَ اللهُ بالإحسانِ إليهم ومَدِّ يَدِ العَوْنِ للتَّخفِيفِ عنهم، فرضًا على كُلِّ إنسانٍ لا سيَّما كُلِّ مُقتَدرٍ ومَيسُورٍ.
باسمِ الأيتامِ والأَرامِلِ، والمُهَجَّرينَ والنَّازِحِينَ من دِيارِهِم وأَوْطانِهم، وكُلِّ ضَحايا الحُرُوبِ والاضطِهادِ والظُّلْمِ، والمُستَضعَفِينَ والخائِفِينَ والأَسْرَى والمُعَذَّبِينَ في الأرضِ، دُونَ إقصاءٍ أو تمييزٍ.
باسمِ الشُّعُوبِ التي فقَدَتِ الأَمْنَ والسَّلامَ والتَّعايُشَ، وحَلَّ بها الدَّمارُ والخَرَابُ والتَّناحُر.
باسمِ «الأُخُوَّةِ الإنسانيَّةِ» التي تَجمَعُ البَشَرَ جميعًا، وتُوحِّدُهم وتُسوِّي بينَهم.
باسم تلك الأُخُوَّةِ التي أرهَقَتْها سِياساتُ التَّعَصُّبِ والتَّفرِقةِ، التي تَعبَثُ بمَصائِرِ الشُّعُوبِ ومُقَدَّراتِهم، وأَنظِمةُ التَّرَبُّحِ الأَعْمَى، والتَّوَجُّهاتُ الأيدلوجيَّةِ البَغِيضةِ.
باسمِ الحُرِّيَّةِ التي وَهَبَها اللهُ لكُلِّ البَشَرِ وفطَرَهُم عليها ومَيَّزَهُم بها.
باسمِ العَدْلِ والرَّحمةِ، أساسِ المُلْكِ وجَوْهَرِ الصَّلاحِ.
باسمِ كُلِّ الأشخاصِ ذَوِي الإرادةِ الصالحةِ، في كلِّ بِقاعِ المَسكُونَةِ.
باسمِ اللهِ وباسمِ كُلِّ ما سَبَقَ، [نعلن…] تَبنِّي ثقافةِ الحوارِ دَرْبًا، والتعاوُنِ المُشتركِ سبيلًا، والتعارُفِ المُتَبادَلِ نَهْجًا وطَرِيقًا”[285].
***
286.إنّ مَن دفعني في تفكيري هذا حول الأخوّة العالمية، هو مثال القدّيس فرنسيس الأسيزي بشكل خاص، وكذلك إخوة آخرون لا ينتمون إلى الكنيسة الكاثوليكية: مارتن لوثر كينغ، وديزموند توتو، والمهاتما موهانداس غاندي وغيرهم الكثير. لكني أريد أن أختم مذكّرًا بشخص آخر ذات إيمان عميق، قام بمسيرة تحوّل، من خبرته القويّة مع الله، حتى شعر بأنه أخ للجميع. إنه الطوباوي شارل دي فوكو.
287.لقد قاد حلمَه باستسلامٍ تامٍّ لله وأراد له أن يتحقّق عبر تماثله مع الأخيرين، والمهجورين في أعماق الصحراء الأفريقية. وفي هذا السياق، عبّر عن رغبته في أن يشعر أيُّ إنسان بأنه أخ له[286]، وطلب من صديق له: “اسأل الله أن أكون حقًا أخًا للجميع”[287]. وأراد في النهاية أن يكون “الأخ العالمي”[288]. ولكنه لم يصبح أخًا للجميع إلّا من خلال تماثله مع الأخيرين. عسى أن يلهم اللهُ كلّ واحد منّا بهذا الحلم. آمين.
صلاة للخالق
يا ربّ البشرية وأباها،
الذي خلقتَ البشرَ جميعًا وساويت بينهم بالكرامة،
ابعث في قلوبنا روح الأخوّة.
ألهِمنا بحلم من اللقاء والحوار والعدالة والسلام.
حثّنا على خلق مجتمعات سليمة، وعالم أفضل،
لا يعرف الجوع، ولا الفقر، ولا العنف، ولا الحروب.
لينفتح قلبنا لجميع شعوب الأرض وأممها،
حتى ندرك الخير والجمال الذي زرعته في كلّ منها،
ونعزّز روابط الوَحدة والمشاريع المشتركة،
والآمال المشتركة. آمين.
صلاة مسكونية مسيحية
يا إلهنا، ثالوث المحبة،
اسكب وسطنا نهر المحبة الأخوية
الذي ينبع من الشركة الروحية القديرة
التي تسكن أعماق ألوهيتك.
وأعطِنا تلك المحبّة
التي كانت تنعكس في أعمال يسوع،
وفي عائلته في الناصرة
وفي الجماعة المسيحية الأولى.
امنحنا نحن المسيحيين أن نعيش الإنجيل
وأن نتعرّف على المسيح في كلّ إنسان،
كي نراه مصلوبًا في معاناة المتروكين
والمنسيين في هذا العالم
وقائمًا في كلّ أخ يقوم من جديد.
تعال أيها الروح القدس، أرنا جمالك
المنعكس في جميع شعوب الأرض،
حتى نكتشف أنّ الجميع مُهمّون، وأنهم ضروريون،
وأنهم وجوه مختلفة لنفس البشرية التي تحبّها، آمين.
أُعطيَ في أسّيزي، عند ضريح القدّيس فرنسيس، في 3 تشرين الأول/أكتوبر، عشيّة عيد “فقير أسّيزي”، من العام 2020، الثامن لحبريّتي.
[1] في جملته “لنتمعّن، جميعنا أيها الإخوة، في الراعي الصالح”: نصائح Admonitions، 6، 1: Écrits, vies, témoignages، Cerf، دار نشر الإخوة الفرنسيسكان 2010، ص. 287.
[2]المرجع نفسه، 25: Écrits, vies, témoignages، Cerf، دار نشر الإخوة الفرنسيسكان 2010، ص. 294.
[3]القديس فرنسيس الأسيزي، Règle non bullata des frères mineurs، 16، 3. 6: Écrits, vies, témoignages، Cerf، دار نشر الإخوة الفرنسيسكان 2010، ص. 208.
[4] إلوا لوكلير، من رهبنة الإخوة الأصاغر الفرنسيسكان، Exil et tendresse، دار نشر الإخوة الفرنسيسكان (1962)، ص. 205.
[5]وثيقـة الأخــوة الإنســانية من أجل السلام العالمي والعيش المشترك، أبو ظبي (4 شباط/فبراير 2019): أوسيرفاتوري رومانو باللغة الفرنسية، 12 شباط/فبراير 2019 ص. 10.
[6]خطاب البابا فرنسيس خلال اللقاء المسكوني وبين الأديان مع الشباب، سكوبيي – مقدونيا الشمالية (7 أيار/مايو 2019): أوسيرفاتوري رومانو باللغة الفرنسية، 14 أيار/مايو 2019، ص. 12.
[7] خطاب البابا في البرلمان الأوروبي، ستراسبورغ (25 تشرين الثاني/نوفمبر 2014). أوسيرفاتوري رومانو باللغة الفرنسية، 27 تشرين الثاني/نوفمبر 2014، ص. 8.
[8]لقاء مع السلطات والمجتمع المدني والسلك الدبلوماسي، سانتياغو – تشيلي (16 كانون الثاني/يناير 2018): أوسيرفاتوري رومانو باللغة الفرنسية، 27 كانون الثاني/يناير 2018، ص. 8.
[9] بندكتس السادس عشر الرسالة العامة المحبة في الحقّ Caritas in veritate(29 حزيران/يونيو 2009)، عدد 19: أعمال الكرسي الرسولي 101 (2009)، ص. 655.
[10]الإرشاد الرسولي ما بعد السينودس المسيح يحيا Christus vivit(25 مارس/آذار 2019)، عدد 181.
[11]الكاردينال راول سيلفا هنريكيز، من الرهبنة الساليزيانية، عظة حول صلاة الشكر الـ Te Deum في سانتياغو تشيلي (18 أيلول/سبتمبر 1974).
[12]الرسالة العامة كن مسبّحًا Laudato si´(24 أيار/ مايو 2015)، عدد 57: أعمال الكرسي الرسولي 107 (2015)، ص. 869.
[13]خطاب البابا إلى أعضاء السلك الدبلوماسي المعتمد لدى الكرسي الرسولي (11 كانون الثاني/يناير 2016): أوسيرفاتوري رومانو باللغة الفرنسية، 14 كانون الثاني/يناير 2016، ص. 9.
[14]خطاب البابا إلى أعضاء السلك الدبلوماسي المعتمد لدى الكرسي الرسولي (13 كانون الثاني/يناير 2014): أوسيرفاتوري رومانو باللغة الفرنسية، 16 كانون الثاني/يناير 2014، ص. 10.
[15] را. خطاب البابا إلى المؤسسة Fondazione Centesimus annus pro Pontifice(25 أيار/مايو 2013): أوسيرفاتوري رومانو باللغة الفرنسية، 30 أيار/مايو 2013، ص. 3- 4.
[16] را. القديس بولس السادس، الرسالة العامة تـَرَقّي الشعوب Populorum progressio(26 آذار/مارس 1967)، عدد 14: أعمال الكرسي الرسولي 59 (1967)، ص. 264.
[17]بندكتس السادس عشر، الرسالة العامة المحبة في الحقّ Caritas in veritate (29 حزيران/يونيو 2009)، عدد 22: أعمال الكرسي الرسولي 101 (2009)، ص. 657.
[18]خطاب البابا إلى السلطات، تيرانا – ألبانيا (21 أيلول/سبتمبر 2014): أوسيرفاتوري رومانو باللغة الفرنسية، 25 أيلول/سبتمبر 2014، ص. 3.
[19]رسالة إلى المشاركين في المؤتمر الدولي “حقوق الإنسان في العالم المعاصر: إنجازات، إخفاقات وإنكار” (10 كانون الأول/ديسمبر 2018): أوسيرفاتوري رومانو باللغة الفرنسية، 18- 25 كانون الأول/ديسمبر 2018، ص. 6.
[20]الإرشاد الرسولي فرح الإنجيل Evangelii gaudium(24 تشرين الثاني/ نوفمبر 2013)، عدد 202: أعمال الكرسي الرسولي 105 (2013)، ص. 1108.
[21]رسالة بمناسبة اليوم العالمي الثامن والأربعين للسلام في الأول من كانون الثاني/يناير 2015 (8 كانون الأول/ديسمبر 2014)، 3- 4: أوسيرفاتوري رومانو باللغة الفرنسية، 11 كانون الأول/ديسمبر 2014، ص. 9.
[22]المرجع نفسه، 5: أوسيرفاتوري رومانو باللغة الفرنسية، 11 كانون الأول/ديسمبر 2014، ص. 10.
[23]رسالة بمناسبة اليوم العالمي التاسع والأربعين للسلامفي الأول من كانون الثاني/يناير 2016 (8 كانون الأول/ديسمبر 2015)، 2: أوسيرفاتوري رومانو باللغة الفرنسية، 17- 24 كانون الأول/ديسمبر 2015، ص. 7.
[24]رسالة بمناسبة اليوم العالمي الثالث والخمسين للسلامفي الأول من كانون الثاني/يناير 2020 (8 كانون الأول/ديسمبر 2019)، 1: أوسيرفاتوري رومانو باللغة الفرنسية، 17- 24 كانون الأول/ديسمبر 2019، ص. 10.
[25]خطاب البابا حول الأسلحة النوويّة، ناغازاكي – اليابان (24 تشرين الثاني/نوفمبر 2019): أوسيرفاتوري رومانو باللغة الفرنسية، 3 كانون الأول/ديسمبر 2019، ص. 5.
[26]خطاب البابا لأساتذة وطلاب كلية “سان كارلو” في ميلانو (6 نيسان/أبريل 2019): أوسيرفاتوري رومانو باللغة الفرنسية، 30 نيسان/أبريل 2019، ص. 9.
[27]وثيقـة الأخــوة الإنســانية من أجل السلام العالمي والعيش المشترك، أبو ظبي (4 شباط/فبراير 2019): أوسيرفاتوري رومانو باللغة الفرنسية، 12 شباط/فبراير 2019 ص. 11.
[28]خطاب البابا لعالم الثقافة، كاليغاري – إيطاليا (22 أيلول/سبتمبر 2013): أوسيرفاتوري رومانو باللغة الفرنسية، 26 أيلول/سبتمبر 2013، ص. 5.
[29]المجتمع البشري: رسالة إلى رئيس الأكاديمية البابوية للحياة بمناسبة الذكرى الخامسة والعشرين لتأسيسها (6 كانون الثاني/يناير 2019)، عدد 2. 6: أوسيرفاتوري رومانو باللغة الفرنسية، 22 كانون الثاني/يناير 2019، ص. 9.
[30]رسالة البابا المسجلة إلى الـ TED2017 في فانكوفر (26 نيسان/أبريل 2017): أوسيرفاتوري رومانو باللغة الفرنسية، 11 أيار/مايو 2017، ص. 4.
[31]صلاة استثنائية في زمن الوباء (27 آذار/ مارس 2020). أوسيرفاتوري رومانو باللغة الفرنسية، 31 آذار/ مارس 2020، ص. 5.
[32]عظة البابا خلال القداس الإلهي، إسكوبية- مقدونيا الشمالية (7 أيار/مايو 2019): أوسيرفاتوري رومانو باللغة الفرنسية، 14 أيار/مايو 2019، ص. 10.
[33] را. الإنيادة، 1، 462: “Sunt lacrimae rerum et mentem mortalia tangun”
[34]“التاريخ… معلّم الحياة” (Historia… magistra vitae)، ماركوس توليوس شيشرون Cicerone، De Oratore، 2، 36.
[35]الرسالة العامة كن مسبّحا Laudato si’ (24 أيار/مايو 2015)، عدد 204: أعمال الكرسي الرسولي 107 (2015)، ص. 928.
[36]الإرشاد الرسولي ما بعد السينودس المسيح يحيا Christus vivit (25 آذار/مارس 2019)، عدد 91.
[37]المرجع نفسه، عدد 92.
[38]المرجع نفسه، عدد 93.
[39] البابا بندكتس السادس عشر، رسالة بمناسبة اليوم العالمي التاسع والتسعين للمهاجرين واللاجئين (12 تشرين الأول/أكتوبر 2012): أوسيرفاتوري رومانو باللغة الفرنسية، 1 تشرين الثاني/نوفمبر 2012، ص. 5.
[40]الإرشاد الرسولي ما بعد السينودس المسيح يحيا Christus vivit(25 آذار/مارس 2019)، عدد 92.
[41]رسالة قداسة البابا فرنسيس بمناسبة اليوم العالمي المئة والسادس للمهاجرين واللاجئين (13 أيار/مايو 2020): أوسيرفاتوري رومانو باللغة الفرنسية، 19 أيار/مايو 2020، ص. 4.
[42]خطاب البابا إلى أعضاء السلك الدبلوماسي المعتمد لدى الكرسي الرسولي (11 كانون الثاني/يناير 2016): أوسيرفاتوري رومانو باللغة الفرنسية، 14 كانون الثاني/يناير 2016، ص. 10.
[43]خطاب البابا إلى أعضاء السلك الدبلوماسي المعتمد لدى الكرسي الرسولي (13 كانون الثاني/يناير 2014): أوسيرفاتوري رومانو باللغة الفرنسية، 16 كانون الثاني/يناير 2015، ص. 6.
[44]خطاب البابا إلى أعضاء السلك الدبلوماسي المعتمد لدى الكرسي الرسولي (11 كانون الثاني/يناير 2016): أوسيرفاتوري رومانو باللغة الفرنسية، 14 كانون الثاني/يناير 2016، ص. 10.
[45]رسالة البابا بمناسبة اليوم العالمي المئة والخامسة للمهاجرين واللاجئين (27 أيار/مايو 2019): أوسيرفاتوري رومانو باللغة الفرنسية، 28 أيار/مايو 2019، ص. 6.
[46]الإرشاد الرسولي ما بعد السينودس المسيح يحيا Christus vivit(25 آذار/مارس 2019)، عدد 88.
[47]المرجع نفسه، عدد 89.
[48]الإرشاد الرسولي افرحوا وابتهجوا Gaudete et exsultate (19 آذار/ مارس 2018)، عدد 115.
[49] من الفيلم البابا فرنسيس – رجل يلتزم بكلامه. الرجاء هو رسالة عالمية، من إعداد ويم وندرز (2018).
[50]خطاب البابا خلال اللقاء مع السلطات الحكومية والمجتمع المدني والسلك الدبلوماسي، مدينة تالّين – إستونيا (25 أيلول/سبتمبر 2018): أوسيرفاتوري رومانو باللغة الفرنسية، 4 تشرين الأول/أكتوبر 2018، ص. 10.
[51]را. صلاة استثنائية في زمن الوباء (27 آذار/ مارس 2020). أوسيرفاتوري رومانو باللغة الفرنسية، 31 آذار/ مارس 2020، ص. 5؛ رسالة البابا بمناسبة اليوم العالمي الرابع للفقراء 2020 (13 حزيران/يونيو 2020)، عدد 6: أوسيرفاتوري رومانو باللغة الفرنسية، 16 حزيران/يونيو 2020، ص. 6.
[52]تحية البابا إلى شبيبة مركز الأب فيليكس فاريلا الثقافي، لافانا – كوبا (20 أيلول/سبتمبر 2015): أوسيرفاتوري رومانو باللغة الفرنسية، 24 أيلول/سبتمبر 2015، ص. 10.
[53]المجمع الفاتيكاني الثاني، الدستور الرعائي فرح ورجاء Gaudium et spes، حول الكنيسة في عالم اليوم، عدد 1.
[54]القديس إيرينيئوس أسقف ليون، ضد الهرطقات Adversus Haereses، 2، 25، 2: الآباء اليونان 7/ 1، 708 – س؛ Sources Chrétiennes عدد 294، ص. 253.
[55]التلمود البابلي Talmud Bavli، السبت، 31.
[56]خطاب البابا اثناء اللقاء مع الأشخاص الذين ترعاهم المؤسسات الخيريّة الكنسية، تالّين – إستونيا (25 أيلول/ سبتمبر 2018): أوسيرفاتوري رومانو باللغة الفرنسية، 4 تشرين الأول/ أكتوبر 2018، ص. 12.
[57]رسالة البابا المسجلة إلى الـ TED2017 في فانكوفر (26 نيسان/أبريل 2017): أوسيرفاتوري رومانو باللغة الفرنسية، 11 أيار/مايو 2017، ص. 4.
[58]عظات في إنجيل القديس متى Homiliae in Mattheum، 50، 3: الآباء اليونان 58، 508.
[59]رسالة البابا بمناسبة اللقاء العالمي للحركات الشعبية، موديستو – الولايات المتحدة الأمريكية (10 شباط/فبراير 2017): أوسيرفاتوري رومانو باللغة الفرنسية، 9 آذار/مارس 2017 ص. 7.
[60]الإرشاد الرسولي فرح الإنجيل Evangelii gaudium (24 تشرين الثاني/ نوفمبر 2013)، عدد 235: أعمال الكرسي الرسولي 105 (2013)، ص. 1115.
[61] القديس يوحنا بولس الثاني، رسالة للأشخاص المعاقين؛ صلاة التبشير الملائكي في أوسنابروك – ألمانيا (16 تشرين الثاني/نوفمبر 1980): أوسيرفاتوري رومانو باللغة الفرنسية، 19 تشرين الثاني/نوفمبر 1980، ملحق ص. 13.
[62]المجمع الفاتيكاني الثاني، الدستور الرعائي فرح ورجاء Gaudium et spes، حول الكنيسة في عالم اليوم، عدد 24.
[63]غابرييل مارسيل، Du refus à l’invocation,،N.R.F.، Paris، 1940، ص. 50.
[64]صلاة التبشير الملائكي (10 تشرين الثاني/نوفمبر 2019): أوسيرفاتوري رومانو باللغة الفرنسية، 12 تشرين الثاني/نوفمبر 2019، ص. 3.
[65] را. القديس توما الأكويني، في Scriptum super Sententiis، lib. 3، dist. 27، q. 1، a. 1، ad 4: (Dicitur amor extasim facere, et fervere, quia quod fervet extra se bullit, et exhalat) “يقولون أن الحبّ ينتج النشوة، ويتأجّج، باعتبار أن ما يتأجّج يغلي فينبثق منه عطره”.
[66] كارول فويتيوا، حب ومسؤولية Amour et Responsabilité،Dialogue/Stock، Paris، 1978، ص. 115.
[67]كارل رانر، Karl Rahner، يسوعي،
Kleines Kirchenjahr. Ein Gang durch den FestkreisHerderbücherei 901، فرايبورغ 1981، ص. 30.
[68]قانون الرهبنة، Regulaـ 53، 15: “قدّم الضيافة للفقراء والحجّاج بكل احترام واهتمام”
(Pauperum et peregrinorum maxime susceptioni cura sollicite exhibeatur).
[69] را. الخلاصة اللاهوتية II-II، البحث الثالث والعشرون، المقال السابع؛ القدّيس أوغسطينس، ضد يوليانوس Contra Julianum، 4، 18: الآباء اللاتين 44، 748: “فهم [البخلاء] يمتنعون عن الملذّات إمّا لسعيهم الجشع إلى زيادة مكاسبهم وإمّا لخوفهم من خسارته”.
[70]«Secundum acceptionem divinam» في Scriptum super Sententiis, lib. 3، Dist. 27، a. 1، q. 1، concl. 4.
[71] بندكتس السادس عشر، الرسالة العامة الله محبة Deus caritas est (25 كانون الأول/ديسمبر 2005)، 15: أعمال الكرسي الرسولي 98 (2006)، 230.
[72]الخلاصة اللاهوتيةII-II، البحث السابع والعشرون، المقال الثاني، الجواب.
[73] را. المرجع نفسه، I- II، البحث السادس والعشرون، المقال الثالث، الجواب.
[74]المرجع نفسه، I- II، البحث المائة والعشرة، المقال الأوّل، الجواب.
[75]رسالة بمناسبة اليوم العالمي السابع والأربعين للسلام في الأول من كانون الثاني/يناير 2014 (8 كانون الأول/ديسمبر 2013)، 1: أوسيرفاتوري رومانو باللغة الفرنسية، 12 كانون الأول/ديسمبر 2013، ص. 8.
[76] را. صلاة التبشير الملائكي (29 كانون الأول/ديسمبر 2013): أوسيرفاتوري رومانو باللغة الفرنسية، 2 كانون الثاني/يناير 2014، ص. 5؛ كلمة البابا إلى أعضاء السلك الدبلوماسي المعتمد لدى الكرسي الرسولي (12 كانون الثاني/يناير 2015): أوسيرفاتوري رومانو باللغة الفرنسية، 15 كانون الثاني/يناير 2015، ص. 8.
[77]رسالة البابا بمناسبة اليوم العالمي للأشخاص ذوي الإعاقة (3 كانون الأول/ديسمبر 2019): أوسيرفاتوري رومانو باللغة الفرنسية، 10 كانون الأول/ديسمبر 2019، ص. 8.
[78]خطاب البابا أثناء اللقاء من أجل الحرية الدينية مع الجالية الإسبانية والمهاجرين الآخرين، فيلادلفيا – الولايات المتحدة الأمريكية (26 أيلول/سبتمبر 2015): أوسيرفاتوري رومانو باللغة الفرنسية، 8 تشرين الأول/أكتوبر 2015، ص. 11.
[79]خطاب البابا خلال اللقاء مع الشبيبة، توكيو – اليابان (25 تشرين الثاني/ نوفمبر 2019): أوسيرفاتوري رومانو باللغة الفرنسية، 3 كانون الأول/ديسمبر 2019، ص. 10.
[80] إني أستلهم، في هذه الاعتبارات، فكرَ بول ريكور في نصّه
“Le socius et le prochain” في “Histoire et vérité”، Seuil، Paris 1967، ص. 113- 127.
[81]الإرشاد الرسولي فرح الإنجيلEvangelii gaudium(24 تشرين الثاني/ نوفمبر 2013)، عدد 190: أعمال الكرسي الرسولي 105 (2013)، ص. 1100.
[82]المرجع نفسه، عدد 209: أعمال الكرسي الرسولي 105 (2013)، ص. 1107.
[83]الرسالة العامة كن مسبّحًاLaudato si´(24 أيار/مايو 2015)، عدد 129: أعمال الكرسي الرسولي 107 (2015)، ص. 899.
[84]رسالة البابا بمناسبة الحدث “إقتصاد فرانشيسكو” (1 أيار/مايو 2019): أوسيرفاتوري رومانو باللغة الفرنسية، 21 أيار/مايو 2019، ص. 9.
[85]كلمة البابا في البرلمان الأوروبي، ستراسبورغ (25 تشرين الثاني/نوفمبر 2014): أوسيرفاتوري رومانو باللغة الفرنسية، 27 تشرين الثاني/نوفمبر 2014، ص. 8.
[86]الرسالة العامة كن مسبّحا Laudato si´ (24 أيار/ مايو 2015)، عدد 229: أعمال الكرسي الرسولي 107 (2015)، ص. 937.
[87]رسالة البابا بمناسبة اليوم العالمي التاسع والأربعين للسلام، الأول من كانون الثاني/يناير 2016 (8 كانون الأول/ديسمبر 2015)، 6: أوسيرفاتوري رومانو باللغة الفرنسية، 17- 24 كانون الأول/ديسمبر 2015، ص. 9.
[88] كلمة متانة (solidité) هي في أصل كلمة تضامن(solidarité). فالتضامن، بالمعنى الأخلاقي والسياسي الذي اتّخذه في القرنين الماضيين، يقود إلى بناءٍ اجتماعيٍّ آمِن وثابت.
[89]عظة قداسة البابا خلال القداس الإلهي، لا هابانا – كوبا (20 أيلول/سبتمبر 2015): أوسيرفاتوري رومانو باللغة الفرنسية، 24 أيلول/سبتمبر 2015، ص. 6.
[90]خطاب البابا إلى المشاركين في اللقاء العالمي للحركات الشعبية، (28 تشرين الأول/أكتوبر 2014): أوسيرفاتوري رومانو باللغة الفرنسية، 6 تشرين الثاني/نوفمبر 2014، ص. 4.
[91] را. القديس باسيليوس، Omelia quod rebus mundanis adhaerendum non sit، 3 و5: الآباء اليونان 31، 545- 549؛ Regula brevius 92: الآباء اليونان 31، 1145- 1148؛ القديس بطرس الذهبي الكلمة، عظة 123: الآباء اللاتين 52، 536- 540؛ القديس أمبروسيوس، De Nabuthe، 27 و52: الآباء اللاتين 14، 738؛ القديس أوغسطينس، حول إنجيل القديس يوحنا، 6، 25: الآباء اللاتين 35، 1436.
[92]حول لعازار الفقير، II، 6: الآباء اليونان 48، 992 د.
[93]Regola pastorale، III، 21: الآباء اللاتين 77، ص. 87
[94] الرسالة العامة السَّنة المِئَةCentesimus annus(1 أيار/مايو 1991)، عدد 31: أعمال الكرسي الرسولي 83 (1991)، ص. 831.
[95] الرسالة العامّة كن مسبّحًا Laudato si´ (24 أيار/مايو 2015)، عدد 93: أعمال الكرسي الرسولي 107 (2015)، ص. 884.
[96] القديس يوحنا بولس الثاني، الرسالة العامة من خلال ممارسة العمل Laborem exercens، (14 أيلول/سبتمبر 1981)، عدد 19: أعمال الكرسي الرسولي 73 (1981)، ص. 626.
[97] را. المجلس الحبري للعدالة والسلام، كومبنديوم عقيدة الكنيسة الإجتماعية، عدد 172.
[98] الرسالة العامة ترقّي الشعوب Populorum progressio(26 آذار/مارس 1967)، عدد 22: أعمال الكرسي الرسولي 59 (1967)، ص. 268.
[99] القديس يوحنا بولس الثاني، الرسالة العامة الاهتمام بالشأن الاجتماعيSollicitudo rei socialis (30 كانون الأول/ديسمبر 1987)، عدد 33: أعمال الكرسي الرسولي 80 (1988)، ص. 557.
[100] الرسالة العام كن مسبّحًاLaudato si´ (24 أيار/مايو 2015)، عدد 95: أعمال الكرسي الرسولي 107 (2015)، ص. 885.
[101]المرجع نفسه، عدد 129: أعمال الكرسي الرسولي 107 (2015)، ص. 899.
[102] را. القديس بولس السادس، الرسالة العامة ترقّي الشعوب Populorum progressio (26 آذار/مارس 1967)، عدد 15: أعمال الكرسي الرسولي 59 (1967)، ص. 265؛ را. بندكتس السادس عشر، الرسالة العامة المحبة في الحقّ Caritas in veritate (29 حزيران/يونيو 2009)، عدد 16: أعمال الكرسي الرسولي 101 (2009)، ص. 652.
[103] را. الرسالة العامة كن مسبّحًاLaudato si´ (24 أيار/مايو 2015)، عدد 93: أعمال الكرسي الرسولي 107 (2015)، ص. 884- 885؛ الإرشاد الرسولي فرح الإنجيل Evangelii gaudium(24 تشرين الثاني/نوفمبر 2013)، أعداد 189- 190: أعمال الكرسي الرسولي 105 (2013)، ص. 1099- 1100.
[104] مؤتمر للأساقفة الكاثوليك في الولايات المتحدة،
Open wide our Hearts: The enduring Call to Love.
A Pastoral Letter against Racism
تشرين الثاني/نوفمبر 2018.
[105] الرسالة العامة كن مسبّحًا Laudato si´ (24 أيار/مايو 2015)، عدد 51: أعمال الكرسي الرسولي 107 (2015)، ص. 867.
[106] را. بندكتس السادس عشر، الرسالة العامة المحبّة في الحقّ Caritas in veritate(29 حزيران/يونيو 2009)، عدد 6: أعمال الكرسي الرسولي 101 (2009)، ص. 644.
[107] القديس يوحنا بولس الثاني، الرسالة العامة السنة المئةCentesimus annus (1 أيار/مايو 1991)، عدد 35: أعمال الكرسي الرسولي 83 (1991)، ص. 838.
[108]خطاب البابا حول الأسلحة النوويّة، ناغازاكي – اليابان، (24 تشرين الثاني/ نوفمبر 2019): أوسيرفاتوري رومانو باللغة الفرنسية، 3 كانون الأول/ديسمبر 2019، ص. 5.
[109] را. الأساقفة الكاثوليك في المكسيك والولايات المتحدة، الرسالة الراعوية Strangers no longer: together on the journey of hope، كانون الثاني/يناير 2003.
[110]المقابلة العامة (3 نيسان/أبريل 2019): أوسيرفاتوري رومانو باللغة الفرنسية، 9 نيسان/أبريل 2019، ص. 2.
[111] را رسالة البابا بمناسبة اليوم العالمي للمهاجرين واللاجئين، (14 كانون الثاني/يناير 2018): أوسيرفاتوري رومانو باللغة الفرنسية، 24 آب/أغسطس 2017، ص. 6.
[112]وثيقـة الأخــوة الإنســانية من أجل السلام العالمي والعيش المشترك، أبو ظبي (4 شباط/فبراير 2019): أوسيرفاتوري رومانو باللغة الفرنسية، 12 شباط/فبراير 2019 ص. 12.
[113]خطاب البابا لأعضاء السلك الدبلوماسي المعتمد لدى الكرسي الرسولي (11 كانون الثاني/يناير 2016): أوسيرفاتوري رومانو باللغة الفرنسية، 14 كانون الثاني/يناير 2018، ص. 10.
[114]المرجع نفسه، ص. 9. 10.
[115] الإرشاد الرسولي ما بعد السينودس المسيح يحيا Christus vivit (25 آذار/مارس 2019)، عدد 93.
[116]المرجع نفسه، عدد 94.
[117]خطاب البابا أثناء اللقاء مع السلطات والهيئة الدبلوماسية، سراييفو – البوسنة والهرسك (6 حزيران/ يونيو 2015): أوسيرفاتوري رومانو باللغة الفرنسية، 11 حزيران/ يونيو 2015، ص. 4.
[118]Latinoamérica. Conversaciones con Hernán Reyes Alcaide.، Planeta، بوينس أيرس 2017، ص. 105.
[119]وثيقـة الأخــوة الإنســانية من أجل السلام العالمي والعيش المشترك، أبو ظبي (4 شباط/فبراير 2019): أوسيرفاتوري رومانو باللغة الفرنسية، 12 شباط/فبراير 2019 ص. 12.
[120] بندكتس السادس عشر الرسالة العامة المحبة في الحق Caritas in veritate(29 حزيران/يونيو 2009)، عدد 67: أعمال الكرسي الرسولي 101 (2009)، ص. 700.
[121]المرجع نفسه، عدد 60: أعمال الكرسي الرسولي 101 (2009)، ص. 695.
[122]المرجع نفسه، عدد 67: أعمال الكرسي الرسولي 101 (2009)، ص. 700.
[123] المجلس الحبري للعدالة والسلام، كومبنديوم عقيدة الكنيسة الإجتماعية، عدد 447.
[124]الإرشاد الرسولي فرح الإنجيل Evangelii gaudium (24 تشرين الثاني /نوفمبر 2013)، عدد 234: أعمال الكرسي الرسولي 105 (2013)، ص. 1115.
[125]المرجع نفسه، عدد 235: أعمال الكرسي الرسولي 105 (2013)، ص. 1115.
[126]المرجع نفسه.
[127] القديس يوحنا بولس الثاني، خطاب البابا إلى ممثلي عالم الثقافة في الأرجنتين، بونس أيريس – الأرجنتين (12 نيسان/أبريل 1987)، عدد 4: أوسيرفاتوري رومانو باللغة الفرنسية، 14 نيسان/أبريل 1987، ص. 7.
[128] را. للكاتب نفسه، خطاب إلى الكرادلة (21 كانون الأول/ديسمبر 1984)، عدد 4: أعمال الكرسي الرسولي 76 (1984)، ص. 506.
[129] الإرشاد الرسولي ما بعد السينودس الأمازون الحبيب Querida Amazonia (2 شباط/فبراير 2020)، عدد 37.
[130] غيورغ سيمل Georg Simmel، في Pont et porte:
La tragédie de la culture، éd. Rivages، Paris1988، ص. 166.
[131] را. خايمي هويوس فاسكيس Jaime Hoyos-Vásquez، يسوعي،
Lógica de las relaciones sociales. Reflexión ontológicaفي Revista Universitas Philosophica15- 16
كانون الثاني/ديسمبر 1990 – حزيران/يونيو 1991، بوغوتا، 95- 106.
[132]أنطونيو سبادارو Antonio Spadaro، يسوعي،
Las huellas de un pastor
Una conversación con el Papa Francisco
في J. M. Bergoglio – Papa Francisco, En tus ojos está mi palabra. Homilías y discursos de Buenos Aires ،
Publicaciones Claretianas، Madrid ، 2017، ص. 24- 25؛ را. الإرشاد الرسولي فرح الإنجيل Evangelii gaudium(24 تشرين الثاني/ نوفمبر 2013)، عدد 220- 221: أعمال الكرسي الرسولي 105 (2013)، ص. 1110- 1111.
[133]الإرشاد الرسولي فرح الإنجيل Evangelii gaudium (24 تشرين الثاني/ نوفمبر 2013)، عدد 204: أعمال الكرسي الرسولي 105 (2013)، ص. 1106.
[134] را. المرجع نفسه، عدد 202: أعمال الكرسي الرسولي 105 (2013)، ص. 1105- 1106.
[135]المرجع نفسه، عدد 202: أعمال الكرسي الرسولي 105 (2013)، ص. 1105.
[136]الرسالة العامة كن مسبّحًا Laudato si´(24 أيار/ مايو 2015)، عدد 128: أعمال الكرسي الرسولي 107 (2015)، ص. 898.
[137]خطاب البابا إلى السلك الدبلوماسي المعتمد لدى الكرسي الرسولي (12 كانون الثاني/ يناير 2015): أوسيرفاتوري رومانو باللغة الفرنسية، 15 كانون الثاني/يناير 2015، ص. 8؛ را. خطاب البابا إلى المشاركين في اللقاء العالمي للحركات الشعبية، (28 تشرين الأول/أكتوبر 2014): أوسيرفاتوري رومانو باللغة الفرنسية، 6 تشرين الثاني/نوفمبر 2014، ص. 5.
[138] يمكننا قول شيء مشابه فيما يخصّ فئة “ملكوت الله” في الكتاب المقدّس.
[139] بول ريكور Paul Ricœur، Histoire et vérité، Seuil، باريس، ص. 122.
[140]الرسالة العامة كن مسبّحًا Laudato si´(24 أيار/ مايو 2015)، عدد 129: أعمال الكرسي الرسولي 107 (2015)، ص. 899.
[141] بندكتس السادس عشر، الرسالة العامة المحبة في الحقّ Caritas in veritate(29 حزيران/يونيو 2009)، عدد 35: أعمال الكرسي الرسولي 101 (2009)، ص.670.
[142]خطاب البابا إلى المشاركين في اللقاء العالمي للحركات الشعبية (28 تشرين الأول/أكتوبر 2014): أوسيرفاتوري رومانو باللغة الفرنسية، 6 تشرين الثاني/نوفمبر 2014، ص. 6.
[143]المرجع نفسه.
[144] خطاب البابا إلى المشاركين في اللقاء العالمي للحركات الشعبية (5 تشرين الثاني/نوفمبر 2016): أوسيرفاتوري رومانو باللغة الفرنسية، 7- 17 تشرين الثاني/نوفمبر 2016، ص. 8.
[145]المرجع نفسه.
[146]المرجع نفسه.
[147]الرسالة العامة كن مسبّحًا (24 أيار/ مايو 2015)، عدد 189: أعمال الكرسي الرسولي 107 (2015)، ص. 922.
[148]خطاب البابا في منظمة الامم المتحدة، نيو يورك (25 أيلول/سبتمبر 2015): أوسيرفاتوري رومانو باللغة الفرنسية، 1 تشرين الأول/أكتوبر 2015، ص. 16.
[149]الرسالة العامة كن مسبّحًا Laudato si´ (24 أيار/ مايو 2015)، عدد 175: أعمال الكرسي الرسولي 107 (2015)، ص. 916- 917.
[150] را. بندكتس السادس عشر، الرسالة العامة المحبة في الحقّ
Caritas in veritate(29 حزيران/يونيو 2009)، عدد 67: أعمال الكرسي الرسولي 101 (2009)، ص. 700- 701.
[151] المرجع نفسه: أعمال الكرسي الرسولي 101 (2009)، ص. 700.
[152] المجلس الحبري للعدالة والسلام، كومبنديوم عقيدة الكنيسة الإجتماعية، عدد 434.
[153]خطاب البابا في منظمة الامم المتحدة، نيو يورك (25 أيلول/سبتمبر 2015): أوسيرفاتوري رومانو باللغة الفرنسية، 1 تشرين الأول/أكتوبر 2015، ص. 15- 16.
[154] المجلس الحبري للعدالة والسلام، كومبنديوم عقيدة الكنيسة الإجتماعية، عدد 437.
[155] القديس يوحنا بولس الثاني، رسالة البابا بمناسبة اليوم العالمي السابع والثلاثين للسلام في الأول من كانون الثاني/يناير 2004، عدد 5: أعمال الكرسي الرسولي 96 (2004)، ص. 117.
[156] المجلس الحبري للعدالة والسلام، كومبنديوم عقيدة الكنيسة الإجتماعية، عدد 439.
[157] را. اللجنة الاجتماعية لأساقفة فرنسا، الإعلان إعادة تأهيل السياسة
Réhabiliter la politique(17 شباط/فبراير 1999).
[158]الرسالة العامة كن مسبّحًا Laudato si´ (24 أيار/ مايو 2015)، عدد 189: أعمال الكرسي الرسولي 107 (2015)، ص. 922.
[159]المرجع نفسه، عدد 196: أعمال الكرسي الرسولي 107 (2015)، ص. 925.
[160]المرجع نفسه، عدد 197: أعمال الكرسي الرسولي 107 (2015)، ص. 925.
[161]المرجع نفسه، عدد 181: أعمال الكرسي الرسولي 107 (2015)، ص. 919.
[162]المرجع نفسه، عدد 178: أعمال الكرسي الرسولي 107 (2015)، ص. 918.
[163]مجلس الأساقفة في البرتغال، الرسالة الراعوية
Responsabilidade solidária pelo bem comum
(15 أيلول/سبتمبر 2003)، ص. 20؛ را. الرسالة العامة كن مسبّحًا Laudato si´، عدد 159: أعمال الكرسي الرسولي 107 (2015)، ص. 911.
[164]الرسالة العامة كن مسبّحًا Laudato si´ (24 أيار/ مايو 2015)، عدد 191: أعمال الكرسي الرسولي 107 (2015)، ص. 923.
[165]البابا بيوس الحادي عشر، خطاب البابا إلى اتّحاد الجامعات الكاثوليكية الإيطالية (18 كانون الأول/ديسمبر 1927). أوسيرفاتوري رومانو باللغة الفرنسية، 23 كانون الأول/ديسمبر 1927، ص. 3.
[166] را. للكاتب نفسه، الرسالة العامة السنة الأربعون Quadragesimo anno (15 أيار/مايو 1931)، عدد 88: أعمال الكرسي الرسولي 23 (1931)، ص. 206- 207.
[167]الإرشاد الرسولي فرح الإنجيلEvangelii gaudium(24 تشرين الثاني/ نوفمبر 2013)، عدد 205: أعمال الكرسي الرسولي 105 (2013)، ص. 1106.
[168]بندكتس السادس عشر، الرسالة العامة المحبة في الحقّ Caritas in veritate(29 حزيران/يونيو 2009)، عدد 2: أعمال الكرسي الرسولي 101 (2009)، ص. 642.
[169]الرسالة العامة كن مسبّحًا Laudato si´ (24 أيار/ مايو 2015)، عدد 231: أعمال الكرسي الرسولي 107 (2015)، ص. 937.
[170]بندكتس السادس عشر، الرسالة العامة المحبة في الحقّ Caritas in veritate(29 حزيران/يونيو 2009)، عدد 2: أعمال الكرسي الرسولي 101 (2009)، ص. 642.
[171]المجلس الحبري للعدالة والسلام، كومبنديوم عقيدة الكنيسة الإجتماعية، عدد 207.
[172] القديس يوحنا بولس الثاني، الرسالة العامة فادي الإنسان Redemptor Hominis (4 آذار/مارس 1979)، عدد 15: أعمال الكرسي الرسولي 71 (1979)، ص. 288.
[173] را. القديس بولس السادس، الرسالة العامة ترقي الشعوب Populorum progressio (26 آذار/مارس 1967)، عدد 44: أعمال الكرسي الرسولي 59 (1967)، ص. 279.
[174]المجلس الحبري للعدالة والسلام، كومبنديوم عقيدة الكنيسة الإجتماعية، عدد 207.
[175]بندكتس السادس عشر، الرسالة العامة المحبة في الحقّ Caritas in veritate(29 حزيران/يونيو 2009)، عدد 2: أعمال الكرسي الرسولي 101 (2009)، ص. 642.
[176]المرجع نفسه، عدد 3: أعمال الكرسي الرسولي 101 (2009)، ص. 643.
[177]المرجع نفسه، عدد 4: أعمال الكرسي الرسولي 107 (2015)، ص. 643.
[178]المرجع نفسه.
[179]المرجع نفسه، عدد 3: أعمال الكرسي الرسولي 107 (2015)، ص. 643.
[180]المرجع نفسه: أعمال الكرسي الرسولي 107 (2015)، ص. 642.
[181]تميّز العقيدة الخُلُقية الكاثوليكية، وفقًا لتعاليم القديس توما الأكويني، بين الفعل “العفوي” والفعل “الواجب”؛ را. توما الأكويني، الخلاصة اللاهوتية Summa Theologiae، II- II، س 184؛ أنطونيو رويو مارين Antonio Royo Marín، من الرهبنة الدومينيكية Teología de la perfección cristiana، BAC، مدريد 1962، ص. 192- 196.
[182]المجلس الحبري للعدالة والسلام، كومبنديوم عقيدة الكنيسة الإجتماعية، عدد 208.
[183] القديس يوحنا بولس الثاني، الرسالة العامة الاهتمام بالشأن الاجتماعي Sollicitudo rei socialis (30 كانون الأول/ديسمبر 1987)، عدد 42: أعمال الكرسي الرسولي 80 (1988)، ص. 572- 574؛ للكاتب نفسه، الرسالة العامة السَّنة المِئَةCentesimus annus(1 أيار/مايو 1991)، عدد 11: أعمال الكرسي الرسولي 83 (1991)، ص. 806- 807.
[184]خطاب البابا إلى المشاركين في اللقاء العالمي للحركات الشعبية (28 تشرين الأول/أكتوبر 2014): أوسيرفاتوري رومانو باللغة الفرنسية، 6 تشرين الثاني/نوفمبر 2014، ص. 4.
[185]خطاب البابا في البرلمان الأوروبي، ستراسبورغ (25 تشرين الثاني/نوفمبر 2014). أوسيرفاتوري رومانو باللغة الفرنسية، 27 تشرين الثاني/نوفمبر 2014، ص. 10.
[186]خطاب البابا إلى الطبقة الحاكمة وأعضاء السلك الدبلوماسي في جمهورية أفريقيا الوسطى، بانغي (29 تشرين الثاني/نوفمبر 2015): أوسيرفاتوري رومانو باللغة الفرنسية، 3 كانون الأول/ديسمبر 2015، ص. 17.
[187]خطاب البابا في منظمة الامم المتحدة، نيو يورك (25 أيلول/سبتمبر 2015): أوسيرفاتوري رومانو باللغة الفرنسية، 6 تشرين الثاني/نوفمبر 2014، ص. 4.
[188]خطاب البابا إلى المشاركين في اللقاء العالمي للحركات الشعبية (28 تشرين الأول/أكتوبر 2014): أوسيرفاتوري رومانو باللغة الفرنسية، 6 تشرين الثاني/نوفمبر 2014، ص. 4.
[189]وثيقـة الأخــوة الإنســانية من أجل السلام العالمي والعيش المشترك، أبو ظبي (4 شباط/فبراير 2019): أوسيرفاتوري رومانو باللغة الفرنسية، 12 شباط/فبراير 2019 ص. 10.
[190] رينه فوايوم René Voillaum، Frères de tous، Cerf، باريس 1968، ص. 12- 13.
[191]رسالة البابا المسجلة إلى الـ TED2017 في فانكوفر (26 نيسان/أبريل 2017): أوسيرفاتوري رومانو باللغة الفرنسية، 11 أيار/مايو 2017، ص. 4.
[192]المقابلة العامة (18 شباط/فبراير 2015): أوسيرفاتوري رومانو باللغة الفرنسية، 19 شباط/فبراير 2015، ص. 2.
[193]الإرشاد الرسولي فرح الإنجيل Evangelii gaudium(24 تشرين الثاني /نوفمبر 2013)، عدد 274: أعمال الكرسي الرسولي 105 (2013)، ص. 1130.
[194]المرجع نفسه، عدد 279: أعمال الكرسي الرسولي 105 (2013)، ص. 1132.
[195]رسالة بمناسبة اليوم العالمي الثاني والخمسين للسلام، الأول من كانون الثاني/يناير 2019 (8 كانون الأول/ديسمبر 2018)، 5: أوسيرفاتوري رومانو باللغة الفرنسية، 18- 25 كانون الأول/ديسمبر 2018، ص. 11.
[196]خطاب البابا خلال اللقاء مع الطبقة الحاكمة، ريو دي جانيرو – برازيل (27 تموز/يوليو 2013): أوسيرفاتوري رومانو باللغة الفرنسية، 1 آب/أغسطس 2013، ص. 14.
[197]الإرشاد الرسولي ما بعد السينودس الأمازون الحبيب Querida Amazonia (2 شباط/فبراير 2020)، عدد 108.
[198]من الفيلم البابا فرنسيس – رجل يلتزم بكلامه. الرجاء هو رسالة عالمية، من إعداد ويم وندرز (2018).
[199]رسالة البابا بمناسبة اليوم العالمي الثامن والأربعين لوسائل التواصل الاجتماعية (24 كانون الثاني/يناير 2014): أوسيرفاتوري رومانو باللغة الفرنسية، 30 كانون الثاني/يناير 2014، ص. 4.
[200] مجلس الأساقفة الكاثوليك في أستراليا، قسم العدالة الاجتماعية، Making it real: genuine human encounter in our digital world (تشرين الثاني/نوفمبر 2019)، ص. 5.
[201]الرسالة العامة كن مسبّحًا Laudato si´ (24 أيار/ مايو 2015)، عدد 123: أعمال الكرسي الرسولي 107 (2015)، ص. 896.
[202] القديس يوحنا بولس الثاني، الرسالة العامة تألق الحقيقة Veritatis splendor (6 آب/أغسطس 1993)، عدد 96: أعمال الكرسي الرسولي 85 (1993)، ص. 1209.
[203] نؤمن نحن المسيحيّين، علاوة على ذلك، أن الله يمنح نعمته حتى نتمكّن من أن نتصرّف كإخوة.
[204]Vinicius De Moraes، Samba della benedizione (Samba da Bênção)، في أسطوانة Um encontro no Au bon، Gourmet، ريو دي جانيرو ( 2 آب/أغسطس 1962).
[205]الإرشاد الرسولي فرح الإنجيل Evangelii gaudium(24 تشرين الثاني /نوفمبر 2013)، عدد 237: أعمال الكرسي الرسولي 105 (2013)، ص. 1116.
[206]المرجع نفسه، عدد 236: أعمال الكرسي الرسولي 105 (2013)، ص. 1115.
[207] را. المرجع نفسه، عدد 218: أعمال الكرسي الرسولي 105 (2013)، ص. 1110.
[208] الإرشاد الرسولي ما بعد السينودس فرح الحب Amoris laetitia(19 آذار/مارس 2016)، عدد 100: أعمال الكرسي الرسولي 108 (2016)، ص. 351.
[209]رسالة بمناسبة اليوم العالمي الثالث والخمسين للسلام، الأول من كانون الثاني/يناير 2020 (8 كانون الأول/ديسمبر 2019)، 2: أوسيرفاتوري رومانو باللغة الفرنسية، 13 كانون الأول/ديسمبر 2019، ص. 10.
[210] مجلس أساقفة الكونغو، Message au Peuple de Dieu et aux femmes et aux hommes de bonne volonté
(9 أيار/مايو 2018).
[211]خطاب البابا خلال لقاء الصلاة الكبير من أجل المصالحة الوطنية، فيلافيسينسيو – كولومبيا (8 أيلول/سبتمبر 2017): أعمال الكرسي الرسولي 109 (2017)، ص. 1063- 1064. 1066.
[212]رسالة بمناسبة اليوم العالمي الثالث والخمسين للسلام، الأول من كانون الثاني/يناير 2020 (8 كانون الأول/ديسمبر 2019)، 3: أوسيرفاتوري رومانو باللغة الفرنسية، 17- 24 كانون الأول/ديسمبر 2019، ص. 11.
[213] مجلس أساقفة أفريقيا الجنوبية،
Pastoral letter on christian hope in the current crisis (أيار/مايو 1986).
[214] مجلس الأساقفة الكاثوليك في كوريا،
Appeal of the Catholic Church in Korea
for Peace on the Korean Peninsula
(15 آب/أغسطس 2017).
[215]خطاب البابا إلى المجتمع المدني، كيتو-إكوادور (7 تموز/يوليو 2015): أوسيرفاتوري رومانو باللغة الفرنسية، 16 تموز/يوليو 2015، ص. 3.
[216]خطاب البابا خلال اللقاء مع الشبيبة، مابوتو – موزمبيق (5 أيلول/ سبتمبر 2019): أوسيرفاتوري رومانو باللغة الفرنسية، 10 أيلول/ سبتمبر 2019، ص. 4.
[217]عظة البابا خلال القداس الإلهي، كارتاخينا دي إيندياس – كولومبيا (10 أيلول/ سبتمبر 2017): أوسيرفاتوري رومانو باللغة الفرنسية، 21 أيلول/ سبتمبر 2017، ص. 10.
[218]خطاب البابا فرنسيس خلال اللقاء مع السلطات والسلك الدبلوماسي والممثلين عن المجتمع المدني، بوغوتا-كولومبيا (7 أيلول/ سبتمبر 2017): أوسيرفاتوري رومانو باللغة الفرنسية، 14 أيلول/سبتمبر 2017، ص. 3.
[219] مجلس أساقفة كولومبيا، Por el bien de Colombia:
diálogo, reconciliación y desarrollo integral
(26 تشرين الثاني/نوفمبر 2019)، عدد 4.
[220]خطاب البابا خلال اللقاء مع السلطات والمجتمع المدني وأعضاء السلك الدبلوماسي، مابوتو – موزمبيق (5 أيلول/ سبتمبر 2019): أوسيرفاتوري رومانو باللغة الفرنسية، 10 أيلول/ سبتمبر 2019، ص. 3.
[221]المؤتمر العام الخامس لأساقفة أمريكا اللاتينية ومنطقة البحر الكاريبي، Le Document d’Aparecida (29 حزيران/يونيو 2007) عدد 398.
[222]الإرشاد الرسولي فرح الإنجيل Evangelii gaudium(24 تشرين الثاني /نوفمبر 2013)، عدد 59: أعمال الكرسي الرسولي 105 (2013)، ص. 1044.
[223]الرسالة العامة السنة المئة Centesimus annus (1 أيار/مايو 1991)، عدد 14: أعمال الكرسي الرسولي 83 (1991)، ص. 810.
[224]عظة البابا خلال القداس الإلهي على نية تنمية الشعوب، مابوتو – موزمبيق (6 أيلول/ سبتمبر 2019): أوسيرفاتوري رومانو باللغة الفرنسية، 10 أيلول/ سبتمبر 2019، ص. 9.
[225]خطاب البابا خلال حفل الاستقبال، كولومبو – سريلانكا (13 كانون الثاني/يناير 2015): أوسيرفاتوري رومانو باللغة الفرنسية، 15 كانون الثاني/يناير 2015، ص. 3.
[226]خطاب البابا إلى أطفال مركز بيت عنيا وممثلي مراكز خيرية أخرى في ألبانيا، تيرانا – ألبانيا (21 أيلول/سبتمبر 2014): أوسيرفاتوري رومانو باللغة الفرنسية، 25 أيلول/ سبتمبر 2014، ص. 7.
[227]رسالة البابا المسجلة إلى الـ TED2017 في فانكوفر (26 نيسان/أبريل 2017): أوسيرفاتوري رومانو باللغة الفرنسية، 11 أيار/مايو 2017، ص. 4.
[228] را. للكاتب نفسه، الرسالة العامة السنة الأربعون Quadragesimo Anno (15 أيار/مايو 1931)، عدد 114: أعمال الكرسي الرسولي 23 (1931)، ص. 213.
[229] را. الإرشاد الرسولي فرح الإنجيل Evangelii gaudium(24 تشرين الثاني /نوفمبر 2013)، عدد 228: أعمال الكرسي الرسولي 105 (2013)، ص. 1113.
[230]خطاب البابا خلال اللقاء مع السلطات، والمجتمع المدني، والسلك الديبلوماسي، في ريغا – ليتونيا (24 أيلول/سبتمبر 2018): أوسيرفاتوري رومانو باللغة الفرنسية، 4 تشرين الأول/أكتوبر 2018، ص. 6.
[231]خطاب البابا خلال حفل الاستقبال، تل أفيف – إسرائيل (25 أيار/مايو 2014): أوسيرفاتوري رومانو باللغة الفرنسية، 29 أيار/مايو 2014، ص. 10.
[232]خطاب البابا خلال زيارته لمتحف “ياد فاشيم”، القدس/أورشليم (26 أيار/ مايو 2014): أوسيرفاتوري رومانو باللغة الفرنسية، 29 أيار/مايو 2020، ص. 15.
[233]خطاب البابا في النصب التذكاري للسلام، هيروشيما – اليابان، (24 تشرين الثاني/ نوفمبر 2019): أوسيرفاتوري رومانو باللغة الفرنسية، 3 كانون الأول/ديسمبر 2019، ص. 8. 15.
[234]رسالة بمناسبة اليوم العالمي الثالث والخمسين للسلام في الأول من كانون الثاني/يناير 2020 (8 كانون الأول/ديسمبر 2019)، 2: أوسيرفاتوري رومانو باللغة الفرنسية، 17- 24 كانون الأول/ديسمبر 2019، ص. 10.
[235]مجلس أساقفة كرواتيا،
Letter on the Fiftieth Anniversary of the End of the Second World War(1 أيار/مايو 1995).
[236]عظة خلال القداس الإلهي، عمان – الأردن (24 أيار/مايو 2014): أوسيرفاتوري رومانو باللغة الفرنسية، 29 أيار/مايو 2014، ص. 5.
[237]رسالة بمناسبة اليوم العالمي الثالث والخمسين للسلام في الأول من كانون الثاني/يناير 2020 (8 كانون الأول/ديسمبر 2019)، 1: أوسيرفاتوري رومانو باللغة الفرنسية، 17- 24 كانون الأول/ديسمبر 2019، ص. 10.
[238]خطاب البابا في منظمة الامم المتحدة، نيو يورك (25 أيلول/سبتمبر 2015): أوسيرفاتوري رومانو باللغة الفرنسية، 1 تشرين الأول/أكتوبر 2015، ص. 17.
[239]عدد 2309.
[240]المرجع نفسه.
[241]الرسالة العامة كن مسبّحًا Laudato si´ (24 أيار/ مايو 2015)، عدد 104: أعمال الكرسي الرسولي 107 (2015)، ص. 888.
[242]حتى القديس أوغسطينوس، الذي طوّر فكرة “الحرب المُحِقّة” التي لم نعد نؤيّدها اليوم، قال إن “قتل الحرب بالكلمة، والتوصّل إلى السلام ونواله من خلال السلام وليس الحرب، هو مجد أعظم من إعطائها للرجال عبر السيف” (رسائل 229، 2: الآباء اللاتين 33، 1020).
[243] را. الرسالة العامة السلام في الأرض Pacem in terris (11 نيسان/أبريل 1963)، عدد 67: أعمال الكرسي الرسولي 55 (1963)، ص. 291.
[244]رسالة إلى مؤتمر الأمم المتّحدة من أجل التفاوض على صكّ مُلزِم قانونًا حول حظر الأسلحة النووية (23 آذار/مارس 2017): أوسيرفاتوري رومانو باللغة الفرنسية، 6 نيسان/أبريل 2017، ص. 5.
[245] را. القديس بولس السادس، الرسالة العامة ترقي الشعوب Populorum progressio (26 آذار/مارس 1967)، عدد 51: أعمال الكرسي الرسولي 59 (1967)، ص. 282.
[246] را. الرسالة العامة إنجيل الحياة Evangelium vitae(25 آذار/مارس 1995)، عدد 56: أعمال الكرسي الرسولي 87 (1995)، ص. 463- 464.
[247]خطاب البابا بمناسبة الذكرى الخامسة والعشرين لصدور التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية (11 تشرين الأول/أكتوبر 2017): أعمال الكرسي الرسولي 109 (2017)، ص. 1196.
[248] را. مجمع العقيدة والإيمان،
Lettre aux évêques à propos de la nouvelle formulation du n.2267 du Catéchisme de l’Eglise Catholique sur la peine de mort
(1 آب/أغسطس 2018): أوسيرفاتوري رومانو باللغة الفرنسية، 9 آب/أغسطس 2018، ص. 6- 7.
[249]خطاب البابا إلى وفد الرابطة الدولية للقانون الجنائي (23 تشرين الأول/أكتوبر 2014): أوسيرفاتوري رومانو باللغة الفرنسية، 30 تشرين الأول/أكتوبر 2014، ص. 8.
[250]المجلس الحبري للعدالة والسلام، كومبنديوم عقيدة الكنيسة الإجتماعية، عدد 402.
[251] القديس يوحنا بولس الثاني، كلمة البابا إلى الجمعية الوطنية الإيطالية للقضاة (31 آذار/مارس 2000)، عدد 4: أعمال الكرسي الرسولي 92 (2000)، ص. 633.
[252]Divinae Institutiones VI، 20، 17: الآباء اللاتين 6، ص. 708.
[253]الرسالة 97 (responsa ad consulta bulgarorum)، 25: الآباء اللاتين 119، 991.
[254]رسالة إلى مارسلينوEpistula ad Marcellinum 133، 1. 2. الآباء اللاتين: 33، 509.
[255]خطاب البابا إلى وفد الرابطة الدولية للقانون الجنائي (23 تشرين الأول/أكتوبر 2014): أوسيرفاتوري رومانو باللغة الفرنسية، 30 تشرين الأول/أكتوبر 2014، ص. 8.
[256]المرجع نفسه، ص. 8.
[257]المرجع نفسه.
[258] الرسالة العامة إنجيل الحياة Evangelium vitae (25 آذار/مارس 1995)، عدد 9: أعمال الكرسي الرسولي 87 (1995)، ص. 411.
[259] مجلس الأساقفة الكاثوليك في الهند،
Response of the Church in India to the present day challenges، بنغالور (9 آذار/مارس 2016).
[260]عظة خلال القداس الإلهي، بيت القديسة مرتا (17 أيار/مايو 2020).
[261]بندكتس السادس عشر، الرسالة العامة المحبة في الحقّ Caritas in veritate(29 حزيران/يونيو 2009)، عدد 19: أعمال الكرسي الرسولي 101 (2009)، ص. 655.
[262] القديس يوحنا بولس الثاني، الرسالة العامة السَّنة المِئَة Centesimus annus (1 أيار/مايو 1991)، عدد 44: أعمال الكرسي الرسولي 83 (1991)، ص. 849.
[263]خطاب البابا إلى قادة ديانات أخرى وطوائف مسيحية أخرى، تيرانا – ألبانيا (21 أيلول/سبتمبر 2014): أوسيرفاتوري رومانو باللغة الفرنسية، 25 أيلول/سبتمبر 2014، ص. 5.
[264]وثيقـة الأخــوة الإنســانية من أجل السلام العالمي والعيش المشترك، أبو ظبي (4 شباط/فبراير 2019): أوسيرفاتوري رومانو باللغة الفرنسية، 12 شباط/فبراير 2019 ص. 11.
[265]الإرشاد الرسولي فرح الإنجيل Evangelii gaudium (24 تشرين الثاني /نوفمبر 2013)، عدد 256: أعمال الكرسي الرسولي 105 (2013)، ص. 1123.
[266] بندكتس السادس عشر، الرسالة العامة الله محبة Deus caritas est (25 كانون الأول/ديسمبر 2005)، عدد 28: أعمال الكرسي الرسولي 98 (2006)، ص. 240.
[267] “الانسان هو حيوان سياسي بطبعه” (أرسطو، السياسة، 1253 أ 1- 3).
[268]بندكتس السادس عشر، الرسالة العامة المحبة في الحقّ Caritas in veritate(29 حزيران/يونيو 2009)، عدد 11: أعمال الكرسي الرسولي 101 (2009)، ص. 648.
[269]خطاب البابا إلى المجتمع الكاثوليكي، راكوفسكي – بلغاريا (6 أيار/مايو 2019): أوسيرفاتوري رومانو باللغة الفرنسية، 14 أيار/مايو 2019، ص .5.
[270]عظة البابا خلال القداس الإلهي، سانتياغو – كوبا (22 أيلول/سبتمبر 2015): أوسيرفاتوري رومانو باللغة الفرنسية، 24 أيلول/ سبتمبر 2015، ص. 13.
[271] المجمع الفاتيكاني الثاني، البيان في عصرنا Nostra aetate حول علاقة الكنيسة بالديانات غير المسيحية، عدد 2.
[272]خطاب البابا خلال اللقاء المسكوني، ريغا –ليتونيا (24 أيلول/ سبتمبر 2018): أوسيرفاتوري رومانو باللغة الفرنسية، 4 تشرين الأول/أكتوبر، ص. 7.
[273]قراءة إلهية Lectio divina في جامعة اللاتران البابوية (26 آذار/مارس 2019): أوسيرفاتوري رومانو باللغة الفرنسية، 16 نيسان/أبريل 2019، ص 6.
[274] القديس بولس السادس، الرسالة العامة كنيسة المسيح Ecclesiam suam (6 آب/أغسطس 1964)، عدد 101: أعمال الكرسي الرسولي 56 (1964)، ص. 650.
[275]خطاب البابا إلى السلطات الفلسطينية، بيت لحم – فلسطين (25 أيار/مايو 2014): أوسيرفاتوري رومانو باللغة الفرنسية، 29 أيار/مايو 2014، ص. 7.
[276]تعليق حول المزامير، 130، 6: الآباء اللاتين 37، 1707.
[277]إعلان مشترك بين قداسة البابا فرنسيس والبطريرك المسكوني برتلماوس الأول، القدس-أورشليم (25 أيار/مايو 2014)، عدد 5: أوسيرفاتوري رومانو باللغة الفرنسية، 29 أيار/مايو 2014 ص. 11.
[278]من الفيلم البابا فرنسيس – رجل يلتزم بكلامه. الرجاء هو رسالة عالمية، من إعداد ويم وندرز (2018).
[279]الإرشاد الرسولي ما بعد السينودس الأمازون الحبيب Querida Amazonia (2 شباط/فبراير 2020)، عدد 106.
[280]عظة خلال القداس الإلهي، كولومبو – سريلانكا (14 كانون الثاني/يناير 2015): أوسيرفاتوري رومانو باللغة الفرنسية، 15 كانون الثاني/يناير 2015، ص. 4.
[281] وثيقـة الأخــوة الإنســانية من أجل السلام العالمي والعيش المشترك، أبو ظبي (4 شباط/فبراير 2019): أوسيرفاتوري رومانو باللغة الفرنسية، 12 شباط/فبراير 2019 ص. 12.
[282]خطاب البابا أثناء اللقاء مع السلطات والهيئة الدبلوماسية، سراييفو – البوسنة والهرسك (6 حزيران/ يونيو 2015): أوسيرفاتوري رومانو باللغة الفرنسية، 11 حزيران/ يونيو 2015 ص. 4- 5.
[283]خطاب البابا إلى المشاركين في الاجتماع الدولي من أجل السلام برعاية جماعة سانت إيجيديو (30 أيلول/سبتمبر 2013): أوسيرفاتوري رومانو باللغة الفرنسية، 3 تشرين الأول/أكتوبر 2013، ص. 16.
[284] وثيقـة الأخــوة الإنســانية من أجل السلام العالمي والعيش المشترك، أبو ظبي (4 شباط/فبراير 2019): أوسيرفاتوري رومانو باللغة الفرنسية، 12 شباط/فبراير 2019 ص. 11.
[285]المرجع نفسه، ص. 10.
[286]تأمل حول صلاة الأبانا (23 كانون الثاني/يناير 1897).
[287]رسالة إلى هنري دي كاستري، Lettre à Henry de Castries، (29 تشرين الثاني/نوفمبر 1901).
[288] للكاتب نفسه، رسالة إلى السيدة دي بوندي، Lettre à Madame de Bondy، (7 كانون الثاني/يناير 1902). وقد أطلق عليه الاسم نفسه القديسُ بولس السادس مشيدًا بأعماله: الرسالة العامة ترقي الشعوب Populorum progressio(26 آذار/مارس 1967)، عدد 12: أعمال الكرسي الرسولي 59 (1967)، ص. 263.